ما أن تدخل الساعات الأولى من يوم العيد حتى يبدأ قصف الأحبة و الأصدقاء بعضهم بعضا بعواصف من الرسائل النصية الجاهزة ، التي لا تكلف بالطبع مرسلها إلا ضغطة زر واحدة ، تكون كافية لضخ كل كلمات التهنئة و التبريك دفعة واحدة ، ضغطة زر واحدة تكفي لتقرع جرس كل من في العمارة و تنجز مهمتك بأقل تكلفة أعصاب ممكنة ، إذ لا تحتاج حتى أن تدقق في الأسماء المرسل لها ، المهم أن تصب في ضربة شاملة خاطفة سطل التبريكات على كل حزمة الأصدقاء التي كدستها في هاتفك ، و تزيل عليك بعضا من اللوم الاجتماعي المحتمل و تكسب ربما مساحات جديدة في قلوب البعض من حيث لا تدري إذ كنت مسترخيا لدقائق في عملية قصفك العشوائي لكل صديق ، قريب كان أو بعيد ، خصوصا و أنك تعي في نفسك جيدا أنه قد يأتي يوم من الأيام تحتاج أحدهم في مصلحة من مصالحك فتكون بذلك قد مهدت الطريق و ضمنت نصف قبول الطلب .
نعم إنها التقنية الحديثة التي مكننت تهانينا و مشاعرنا ، و صرنا نوكل للرسائل النصية الجاهزة مهمة صلة الأصدقاء و الأقارب ، من غير أن نكلف أعصابنا و أناملنا عناء ابتكار العبارات الأدق و الأنسب للتعبير عن مشاعرنا تجاه من كان من المفترض أن نصله بكل خشوع و صدق بعيدا عن تلك الآلية الميكانيكية التي تجعل من سلوك المعايدة و التبريك شيئا فاقدا لعبق المعاني الإنسانية الخفاقة التي تشعر الأخر بمكانته و أهميته بالنسبة لك ، كأن أن تخصه مثلا باسمه أو بأسماء أفراد عائلته أو تذكره ببعض من الأمور الخاصة التي تجمعكم في سياق علاقات الصداقة أو العمل ، ليتيقن مطمئنا أنه هو المقصود برسالتك و ليس ذاك الرقم المهمل وسط ركام من الأرقام و الأرقام ، التي يصير فيه صديقك أو قريبك مجرد إكس من بين إكسات كثيرة لا أقل و لا أكثر .
صحيح أن أصدقاءنا يتفاوتون في درجة مكانتهم بالنسبة لنا ، و صحيح أن كل صنف منهم نخصه بطريقة معينة من المعايدة ، فبعضهم نخصص لهم المكالمات الطوال و بعضهم نخصص له المكالمات القصار و بعضهم نخصصه برسائل خاصة مطرزة و بعضهم لا نخسر عليه إلا الرسائل الجامدة “الستندار” ، وصحيح أن هذا الصنف الأخير من الرسائل قد يبقى أحسن من لاشيء بالنسبة للبعض ، لكن ضرورة استحضار كامل قوانا العقلية و العاطفية في عملية التواصل تبقى سلوكا إنسانيا مطلوبا لضمان فعاليته ووصوله إلى قلب الطرف الأخر ، بل و ضمان سمو أخلاقي يتمكن به الفرد من نيل أعلى درجات الكرم ألا وهي النفقة من الوقت و الاهتمام من أجل أن يرى بعضا من السعادة و الارتياح على و جه صديقه أو قريبه ، مثلما يوصي الرسول الكريم بذلك بصيغة مشابهة من خلال حديثه الشريف ” التبسم في وجه أخيك صدقة ” بل الأكثر من ذلك يبقى من الرقي الأخلاقي أيضا ضرروة استحضار مشاعر المودة أثناء مصافحته حتى لا تتحول هي الأخرى مثل إلقاء التحية و بعث الرسائل الجاهزة إلى عملية ميكانيكية نكون فقط مضطرين للقيام بها بشكل جاف دون أي انخراط وجداني يحسس الأخر بمشاعر الاحترام و التقدير …
إن الميكانيكية هذه في التواصل الإنساني الحديث ليست إلا واحدة من سلوكيات النرجسية المتأرجحة القابعة في نفس الإنسان ، و التي وجدت في الرسائل القصيرة الجاهزة فرصة للظهور بأحسن حالات التنكر و التأدب الممكنة ،مثلما نقول بلهجتنا العامية المغربية ” كنديرو الصواب وخلاص ” إذ أن الفرد هنا يريد تكديس أكبر عدد ممكن الأصدقاء بأقل تكلفة ممكنة ، كما أنه يريد معايدة صديقه حتى لا يخسره و في نفس الوقت ليس له من الصبر ما يكفي لخصه برسالة خاصة متميزة أو بمكالمة أو زيارة ، مما يجعله يستعمل رشاش الرسائل الجامدة للضرب بعينين نائمتين مرتاحتين في كل الوجهات بكل ما أوتي في هاتفه من رصيد ، ناسيا أن نفقة الوقت و الاهتمام أجل و أسمى من نفقة السنتيمات و الدراهم ، و لرب تغيب عن سلوك المعايدة يزيد البون و الحب أفضل و أحسن من رسالة نصية باردة تقذف في هاتف الصديق وسط ركام لا حد له من رسائل المعايدة المتطابقة ، و التي يمكن القول عنها سخرية أن رسالة معايدة واحدة من شركة الاتصالات كافية للنيابة عنها و اختزالها في جملة واحدة ” عيدكم مبارك سعيد” تصل الجميع لكفي الله الكسالى شر القصف و القتال …
لهذا يمكن القول في الأخير أن زيارة واحدة صادقة بخطوات معشرة مأجورة ، أو رسالة خاصة واحدة بانخراط وجداني صادق خير من مئات الرسائل الجاهزة التي تموت في هواتف الأصدقاء بل وقد تحسسهم أننا شركة كبرى مستعلية تخاطبهم بصيغة المجهول و تقول لهم بصيغة ضمنية جارحة إنه ليس لدي الوقت الكثير لأخصكم برسالة ، إلى درجة أني كنت أرسل لكم الرسائل المجانية بيد و أقوم بأعمالي الأهم باليد الأخرى ، حتى أن يميني لا تعرف في الغالب ما أرسلت شمالي و لا حتى لمن أرسلت الرسالة …