بين الشعر والحياة أكثر من وشيجة وَصِلَة، بل أكثر من تَصَادٍ وترابط واندغام. منها يقتات وعليها بنيانه ونموه، وجذوته المتقدة، ووجوده. بينهما الاستمداد والاسترفاد لما به يكونان : الشعر يتنفس الهواء والشمس والماء والتراب، والحياة تزداد به نضارة ورونقا وجمالا.
أليس الشعر نشيدا للحياة يتنشقها ويقبل عليها بملء ما يُكَوِّنُهُ ويُهَيْكِلُهُ… بلغته وصياغته وصوره، وتشوف دلالاته، واستشرافاتها، وبالحلم الذي يسري في جسده يمده بالاستمرار، ويغذيه بالإشراق والنشيد. لا شعر ما لم يحيا ممجدا للحياة. لا شعر ما لم يتقدم وسط الكسور والشظايا والحطام ليقول الغد والبديل، والقادم الأبهى، ومن ثم، فالشعر حرية، أي بينه وبين الحرية أكثر من سبب وقرابة ونسب إذ الحرية هي بنت الحياة، وما دام الأمر كذلك، فالشعر والفنون جميعا فلذات أكباد الحرية بما يعني أبناء الحياة.
حرية القصيدة في حيوتها، وتشعب معناها.. في الفرادة والطزاجة، والقدرة على تمثل روح عصرها، وفي تجاوز المحرم والطابو، واختراق النمطي، وَهَدٍّ المضايق طلبا للشسوع والرحابة والطيران.. وفي الطيران حرية بما لا يقاس.
وتتجلى تلك العلاقة، ذلك التماهي في الهموم الجديدة، ومعانقة الوجود كواقع يتخطى الشعر بالحلم من أجل واقع ثان.. واقع محلوم به لا يني يَتَبَنْيَنُ كنعمة تسكن اللغة التي تتحول إلى وطن استعاري عريض وبديل.
ويتصل هذا الربط، ربط الشعر بالحرية، في الجرأة على المؤسسات، أو بالمعارضة لـ: “التقليدانية” في تجلياتها ومشخصاتها العديدة والمتنوعة، من دون أن يسقط في الشكلانية السياسية، والزعيق الإيديولوجي، وشرك الهتاف والمباشرة والتحريض. إذ معارضة البنى القائمة، والنظم البالية، تتأتى بالفن عموما، وبالشعر حين يتجوهر ويترقرق وصولا إلى الإلذاذ والفائدة الماتعة.
والشعر حر إذا تحرر من القيود اللغوية الرثة، والبلاغة المعتقة “الحيزبون”، ما يقود إلى القول بأن الحرية في الشعر تعني – فيما تعنيه- التعبير الحر المنبثق من صميم الأنا، والذات، والرغبة، والانعتاق. وهذا يقتضي عدم الخوف من المساس بما هو طابو وما هو مقدس وصَنمِي: اللغة – الجنس – الدين – السياسية.
ليس بشعر شِعْرٌ يمدح الطواغيت، ويمجد الفساد والاستبداد، ويزين للامبراطور ثيابه. ولا بشعر شِعْرٌ يَكِلُ للحروب وجحيمها، الأوصاف والنعوت التي تبرر شرورها، وتزركشها بماء الذهب المزور.
الشعر أكثر من لغة إنسانية إذ هو روحها وجوهرها النابض الملتمع في قرارة كيانيتها وتشكلها. وهو تعبير عميق يغني للحرية، ويصدح للشمس آناء الليل وأطراف النهار لأنه للقيم الإنسانية العليا خُلِقَ وأنشيء وانْبَثَقَ، قيم الحرية والحق، والجمال، والعدل. فهو حرية، والحرية شعر… هو هي، وهي هو، تَمَاهٍ وحلولية وتنافذ وتراسل وتَضَامّ.
في اللغة بما هي ماض وحاضر وآت، ومسكن أنطلوجي ونعيم، يكمن الشعر، تكمن الحرية. في اللغة متحررة من أثقال الحَاجِّي، والضروري والمعاش، ومتحررة من عبء الإبلاغ النمطي البارد، والتداول العام، يتخلق الشعر، وينزاح، وفي هذا ما يشي بمعاني الحرية، إذ يصبح الشعر ترجمان أفكار وأشواق ورغائب، وترجمان تشوفات، ورهاناً على تسييد قيم الخير والمحبة والطلاقة والجمال.
هكذا يكون الفن بِإِجْمال – وضمنه الشعر- ممارسة للحرية في أسمى معانيها، ومختلف تجلياتها ومستوياتها. في الرقص بما هو تحرر من قيود الجسد والمادة والأرض، وفي الموسيقى بما هي سمو وعلو، وترحل في الفضاء والأجواز، وفي التشكيل بما هو تخفف من أعباء المادة، وانتشاء برَخامة الصباغة والزيت، وبديع الألوان، وعمق الأبعاد والأعماق والسطوح والقرارات. وفي الشعر بما هو جماع هذه المعاني والتوصيفات جميعها.
به، بالفنون المختلفة، يتحرر الإنسان من وضعه الحيواني، وشرطه الخام، فتتحقق مَكْرُمَتُه على الأرض كصانع ومبدع ومُحَوِّل، ومتحول، وَبَانٍ لثقافة خلاقة يعيد بها بناء كون يتهدم.. ويستبق خرابا قادما.. ينجح في وقف زحفه، وتهديده للبشرية بالفناء العام.. والهلاك المترصد.