على اثر الأحداث المفجعة، والمتكررة التي تعرفها بلادنا، من جراء تواتر مشاهد العنف ، والعنف المضاد، و تكرار الفواجع سواء بمناسبة المباريات الكروية، أو غيرها، أو ما يعرفه المجتمع من اتساع ملحوظ لدوائر الاعتداء على الآخر، بخلفيات إجرامية مباشرة ، أو بخلفيات ” أخلاقوية ” مسنودة بمبررات ” الحق الطبيعي” الذي ينتصب فيه الفرد بديلا عن سلطة الدولة والمؤسسات،ويعلن فيه المجتمع العودة إلى نظام ” السيبة” و” الحرية الطبيعية” الخارجة عن قواعد القانون العام، والحالة المدنية،وتكريس نموذج المجتمع الخارج عن ضوابط النظام التعاقدي الذي ينظم الحريات الفردية، والجماعية بموجب سلطة القانون،
و اعتبارا للمخاطر التي تعلنها هذه المسلكيات بتحويل المجتمع إلى ساحة عامة تشرعن العنف، والانتقام، والفوضى ، يحق لنا مساءلة هذه الظواهر الطارئة على المجتمع المغربي والتي تزداد اتساعا لتؤشر على تحول خطير في منظومات الوعي الاجتماعي، ونظام القيم، والتمثلات، والسلوك ….وبالتالي نطرح السؤال بشكل مباشر… هل تمتلك الدولة المغربية اليوم مشروعا ثقافيا للتربية على المواطنة، والقيم المدنية، وهي التي رفعت شعار المجتمع الحداثي و الديمقراطي؟. وهل يمكن بناء مجتمع حداثي بدون مشروع للـتأهيل الثقافي؟.
لقد أصبحت مظاهر العنف تكتسي طابعا اجتماعيا واسع الانتشار، فتعددت مجالاته كالعنف ضد الأصول، والعنف في المدارس، وفي الشوارع العامة، وفي الطرقات، وفي الملاعب،..كما أضحى يكتسي طابعا خاصا كالاعتداء على حرية الآخرين باسم شرطة الأخلاق، أوإعمال القانون نيابة عن الدولة، كما أصبحت بلادنا تصدر أعدادا كبيرة للإرهاب الدولي،ويتورط المغاربة في العديد من العمليات الإرهابية، وتنخرط منهم أعداد كبيرة في صفوف التنظيمات المتطرفة، بالإضافة إلى انتشار الثقافة الدينية الأصولية المتطرفة، بقنواتها ووسائطها وأصواتها … .كل هذه المظاهر – وأخرى- تطرح استعجالية موضوع التأهيل الثقافي للمواطن المغربي.
إن تعثر الإمكان البشري، والعجز الفظيع في مؤشرات النمو،وضعف السياسات الاجتماعية الموروثة منذ مطلع الاستقلال،والتفاوتات الاجتماعية في نظم التربية والتعلم،وتخلف آليات الحماية الاجتماعية، كلها عوامل ساهمت في تعطيل شروط التأهيل الثقافي لعموم المواطنات والمواطنين، ناهيك عن تخلف المدرسة المغربية، وفشلها في الاستجابة لمتطلبات التكوين، والتحديث ، والتنمية الشاملة.
إن المجتمع المغربي شهد تحولات عميقة في أنماط السلوك، والتمثلات، والعلاقات، وفي قواعد التواصل، والتعبير..غير أن نموذج المجتمع الحداثي بما يفرضه من خيارات سياسية، وثقافية، وتربوية ما زال يعرف ترددات بفعل طبيعة التشكيلات المجتمعية نفسها ،وبفعل طبيعة ااسيرورة الانتقالية في البنيات الثقافية القائمة.وهو ما يتطلب الاستثمار الايجابي والعقلاني للحركية الجديدة التي تعتمل المجتمع المغربي والتي تخص الأنماط العصرية للتنظيم الاجتماعي، ومكانة الفرد بوصفه فاعلا ايجابيا.
وإذا كان العالم اليوم يعرف تفككا وتلاشيا تدريجيا للوسائط التقليدية للتنشئة الثقافية في مقابل التوسع الهائل للوسائط التكنولوجية الجديدة، مما يؤشر على تحول جوهري في منظومات التواصل، والتلقي، والقراءة،والإنتاج، مع ما يستتبع ذلك،من تحول في التمثلات ، والقيم،والسلوك، والمعارف، فان المجتمع المغربي، وهو مجتمع متحول، عرف انتقالا ديمغرافيا سريعا، يعيش على إيقاع هذه المتغيرات، ويتفاعل معها، بهذا الشكل أو ذاك، بعيدا عن أي دور قد تلعبه المؤسسات العامة،أو مؤسسات التنشئة التربوية والدينية الرسمية.مما يعني أن التنشئة الاجتماعية أصبحت تنفلت أكثر فأكثر من القنوات المؤسساتية لتصبح نتاجا لتفاعلات خارجية تصنع نموذجا ” للمواطنة” لا يستجيب لشعار المجتمع الحداثي الديمقراطي القائم على سلطة القانون والعدالة، ليقترب أكثر إلى نموذج المجتمع الفوضوي غير الخاضع لسلطة القانون والمؤسسات في سياق عام تنتعش فيه الايديولوجيات الدعوية التكفيرية ، و النزعات الثقافات العنصرية، والتحريضية، والشوفينية. وبالنتيجة، وجب الإقرار بأنه كلما انتشر العنف، بكل مظاهره، كلما تعطلت شروط بناء المجتمع الديمقراطي الحداثي القائم على صيانة الاختلاف، ورعاية التعدد، وحماية حقوق الانسان وفق قواعد القانون وسلطة الدولة.
إن أسئلة التأهيل الثقافي في المجتمع المغربي الراهن بقدر ما تعيد موضوع السياسة الثقافية لصلب النقاش العام المرتبط بالسياسات العمومية، بقدر ما تعيد للأذهان التعالق الحاصل بين التأهيل الثقافي والمواطنة.فكلما كان رصيد الفرد من التحصيل الثقافي متقدما كلما أجاب عن حاجياته في الشغل،والتكيف مع المحيط،والتعايش السلمي،والـتأويل السليم للحقوق والواجبات، والمبادرة الفاعلة،واحترام حرية الآخرين…وفي السياق الراهن، حيث يتوسع العنف مع توسع وانتشار الثقافة الاستهلاكية التي تضفي على الفردانية سلطة قيمية كبرى ومع توسع الثقافة المحافظة بقيمها السلبية يتحول المواطن – لوحده- إلى سلطة فوق السلط، يشرعن العنف وفق تمثلاته ،وقيمه،وفهمه الخاص لنموذج المجتمع الذي يتصوره.وإذا كان هذا الوضع يكشف تعثر مشروع التحديث الثقافي في بلادنا في مرحلة تاريخية يتأكد معها أن المنظومات الثقافية لم تعد منغلقة، وأصبحت عابرة للقارات، تحمل معها منظومات قيمية وسلوكية كونية ،وأن قنوات التواصل والحوار أصبحت أكثر انفتاحا وانكشافا حيث أصبح العالم “قرية صغيرة” تسمح بانتقال الأفكار، والمعلومات، والأخبار،والقيم، والأذواق…فان أسئلة التحديث الثقافي تطرح بقوة ، ومن ضمنها سؤال “الخصوصية الثقافية’ الذي يوظف بأشكال متخلفة تتعارض مع مستلزمات التفاعل الايجابي مع الثقافات الأخرى،المغايرة.فمفاهيم من قبيل ” الأمن الثقافي” و”الحماية الثقافية” بقدر ما تعبر عن ردود فعل هوياتية إزاء الموجة العولمية الراهنة، بقدر ما تطرح أسئلة حقيقية عن طبيعة هذه التوظيفات . إن مفهوم الخصوصية الثقافية لا ينبغي أن يوظف ضمن منظورأصولي، أو لاتاريخي، كما أنه لا ينبغي أن يشكل الخلفية الايديولوجية لمعاداة الاجتهاد، والعقل، ونمط الدولة المدنية، والفنون ، والآداب، والفلسفة..ولا أن يحول الثقافة الى وعاء للمطلق ، وللمقدس، وللحقيقة الثابتة والمطلقة.
واليوم، يستوجب إقرار سياسة عمومية في مجالالتنشئة الثقافية تتماشى مع المشروع الحداثي الديمقراطي، المعتمد على مقومات تحديثية مواكبة في المدرسة،و بتفاعل مع روح التطور المجتمعي، والدينامية التاريخية الكونية.وباعتماد عمليات تربوية تقدمية ترتكز على منظومة قيمية تستهدف بناء السلوك الفردي والجماعي، والتمثلات المشتركة على قواعد الحقوق والواجبات،واحترام الآخر، والقدرة على التصرف، و الاختيار وفق قواعد السلوك المدني ضدا على نزعات التعصب، والتطرف،والإقصاء، والاطلاقية، والتمييز…