كان ميشيل فوغو في كل حواراته يقول إن الثقافة ما لم تكن تحرك السياسة وتنعش الإبداع وتجعل الأطفال كما الشيوخ يفكرون بـ”أنانية جماعية” في مستقبل الوطن، لا يمكن أن تكون ثقافة. أتذكر أن فوكو نفسه كان يصف نفسه بالكاتب الفاشل إذا ما عجزت كتاباته في أن تثير حدس السياسي ومخيال الأديب وبداهة المفكر وجشع البرجوازي وأحلام البروليتاري.
في المغرب، الثقافة لم تعد تغري أحد، ولا تحرض أحدا على مناقشة الأفكار والمشاريع الثقافية، وحالها لا يختلف كثيرا عن أحوال التعليم والصحة والصحافة، وحتى معرض الكتاب الذي كان من المفترض أن يتحول إلى لقاء سنوي بين مثقفي المغرب، لنقيس نبض المغرب الثقافي وتحولاته على مختلف المستويات، أصبح مجرد واجهة تسويقية أشبه ما تكون بمعرض لبيع السيارات وتسويق العطور النسائية، تتحكم فيه قوانين السوق.
ما يحدث في معرض الكتاب منذ سنوات يؤشر على أن الكل متواطئ في لعبة السوق: وزارة الثقافة حولت أروقة المعرض إلى فضاء للبهرجة المجانية للكثير من المبتدئين الدخلاء على الثقافة لتحقيق الشهرة المزيفة، وأشباه الكتاب المهرولون، استوعبوا القانون جيدا، وأصبحوا هم أيضا يسايرون منطق السوق، والعارضون، الذين يأتون من كل بقاع الدنيا، يعرفون أن مفاهيم النهضة والتحديث والإقلاع ليست سوى شعارات للاستهلاك المناسباتي لا تتلاءم مع طبيعة قوانين السوق.
وقانون السوق يؤمن بأن الغلبة للأقوى، والأقوى في هذه البلاد، من يتوفر على”الجدة في العرس”، والحال أن الكثير من الكتاب الذين سكنتهم لوثة الإبداع، يبحثون عن فرصة صغيرة جدا كي يثبتوا للناس أن الأدب والرواية والنحت وروافد الثقافة ما تزال بخير، لكن مشكلتهم أن لا أخ ولا أم ولا جدة ولا ربيب في عرس محكم التنظيم، ومدعووه معروفون جدا.
قبل عامين تقريبا كتبت في نفس هذا الركن إن رواية تغريبة العبدي المعروف بولد الحمرية لصاحبها عبد الرحيم حبيبي أسقطت دكتاتورية الأسماء الكبيرة المسكونة بالشهرة والمال، لأنها جعلت لجنة انتقاء جائزة البوكر تعترف بفرادة رواية حقيقية لم يتعرف عليها المغاربة، فهو لا يعرف نقادا “مزيفين” يفهمون في منطلقات الرواية وتشكل الصخور في الهيمالايا ويمزجون اللغة الشعرية بأزيز الرصاص وهدير الشاحنات، ولا يحضر مع رئيس الحكومة وزعماء الأحزاب في الملتقيات الوطنية والعالمية. لم يتغير الشيء الكثير منذ ذلك اليوم، والذي قاله عبد اللطيف اللعبي عن علاقة المال بالثقافة صحيح جدا..إنها علاقة فساد حقيقية.
كي تصبح كاتبا ناجحا في المغرب، ليس مهما ان تكون قارئا جيدا ذو خيال واسع ورؤية ثاقبة ورصيد ثقافي غني، وهي مقومات الكتابة كما تواضع عنهم أصحاب”العشبة الزائدة” كما يقول محمود درويش. يكفي فقط أن تكون على علاقة طيبة ببعض الصحافيين: يمدحونك صباح مساء ويشبهونك بدويستويفسكي جديد ولا شيء يفرقك مع الخطيبي وغراس وراجع، وكتاباتك تستحق نوبل لو أن هؤلاء الغربيين يمنحونها لأبنائهم، وان تتوفر على نقاد يفهمون في كل شيء ولم يقرؤوا يوما شيئا..وأن تتوفر على شبكة علاقات واسعة في كل المجالات: يطبعون لك الكتب الضحلة، ويوفرون لك شروط الراحة في المنتديات، ويدعونك إلى المؤتمرات، ويحرضونك على الكتابة للمجلات الصقيلة.
الكتابة أيضا أصبحت موضة حقيقية، تتغير حسب الفصول والشهور والمواسم، ومعرض الكتاب السنوي هو جزء من هاته الموضة، ولم أجل أفضل من عبارة للشاعر نبيل أكنوش الذي قطع آلاف الكلمترات لتوقع ديوانه الشعري الجديد، لقد قال في لحظة غضب: المثقف ينهش لحم الثقافة..هكذا تصبح الكتابة فعلا انتهازيا يقود نحو الشهرة…والانحطاط..وهذه هي المأساة…