لقد خلصت في مقالي السابق ” تربيتنا وتعليمنا / 1″ إلى أن النظام السياسي بالمغرب يعمد بكل وسائله الخسيسة ومكره الخداع إلى التحكم في جسم التربية والتعليم عن بعد بلطف ناعم، لأنه يعلم جيدا أن الأنظمة السياسية الجائرة المستبدة عبر التاريخ سقطت بسبب تعليم وتنور مواطنيها وارتفاع منسوب وعيهم بواجباتهم وحقوقهم.
إن هذا التحكم الذي يمارسه الآن النظام السياسي بالمغرب على حقل التربية والتعليم، قد مارسه مع جميع الحكومات السابقة التي تعاقبت وتناوبت على تنفيذ سياسات النظام في كل القطاعات؛ ومنها قطاع التعليم بدرجة كبيرة، إلا أنه كلما ازداد النظام / الدولة قناعة ووعيا بأن تنوير الشعب وتعليمه سيجر عليه ويلات ومشاكل كثيرة ، لأنه بذلك سوف يعي ويفهم فيحلل وينتقد ثم يثور ويتمرد، كلما اتجه بإصرار نحو حبك خطط محكمة لينزع من المواطن كل الأسباب والوسائل التي تجعله مؤهلا للتغيير أو حتى التفكير فيه، فهو من جهة يسوق لنفسه على أنه لا يقصر في تنوير أبناء الوطن وضمان حقهم في تعليم جيد، ومن جهة أخرى خطته الحقيقية تستهدف هذا الحق لدى المواطن، حيث يحقنه بلقاحات الأمية والتجهيل والتفقير المادي والمعرفي ضد التغيير منذ الصغر، لتضمن فيما بعد نضجه الجسدي – فيكون مجرد يد عاملة في قطاع الأمن أو قطاعات أخرى اقتصادية تهيمن عليها القلة الحاكمة الفعلية للبلد – وتضمن أيضا قصوره العقلي الفكري وعيا وثقافة وعلما وفهما وتحليلا ونقدا.
فمن الملاحظ أن موجة ما عرف بالربيع العربي / الدموقراطي تعكس درجة ملحوظة لا يستهان بها من الوعي لدى بعض المواطنين بالشعوب العربية؛ خاصة الشباب منهم، وبالمغرب أيضا مع حركة 20 فبراير 2011، فقد يظن البعض ظنا خاطئا أن الوعي الشعبي الشبابي هذا كان وليد نظام تعليمي جيد ومتقدم حققته الدولة لمواطنيها، لكن الحقيقة عكس ذلك؛ بل يعتبر نزرا قليلا من الوعي توقد لدى بعض الشباب تحت ضغط القهر والظلم والتهميش، فساعدت وسائل التكنولوجيا على انتشاره وتبليغ دويّه إلى كل المواطنين متجاوزة الحدود الجغرافية.
ومن هذا المنطلق يمكن القول دون شك أنه بعد الربيع الدموقراطي بالمغرب استشعر النظام السياسي خطرا من هذا الوعي المتنامي، والذي تزيده مواقع التواصل الاجتماعي السريع تأجيجا، ولذلك؛ ودون تردد، أضحى يفكر في المزيد من إحكام السيطرة على قطاع التربية والتعليم، وهذا يظهر جليا في تنصل الحكومة الحزب الذي يقود ائتلافها منذ تنصيبها خلال الثالث من يناير 2012 من حمل حقائب القطاعات الاجتماعية وعلى رأسها التلعيم، وإن كان هذا الحزب قد وصل إلى سدة الحكم بسبب الحراك الاجتماعي تحت شعار محاربة الفساد والاستبداد، فهو منذ وضع القدم الأولى بالحكومة طاله الاستبداد فحرم من تحمل المسؤولية في القطاعات الاجتماعية وادعى أنه لم يخترها فقط، وهذا أول ليّة لعنق الحزب من لدن النظام، فعلا إنه ليس بالأمر البريئ.
وفي السياق نفسه؛ فإن ما يعزز هذا القول هو النسخة الثانية من الحكومة المنصبة خلال العاشر من أكتوبر 2013 بعد انسحاب حزب الاستقلال الذي لم يكن بريئا هو الآخر، حيث تحمل مسؤولية التربية والتعليم رجل تكنوقراطي فرانكوفوني جيئ به لينفذ خطط النظام الماكرة في الحقل التربوي التعليمي والتي يتقن المجلس الأعلى للتربية والتعليم إخراجها وحبكها، مما يجعل الوزير مجرد موظف منفذ لها لا غير، فشخصية الوزير السايق ” محمد الوفا” ليست طيّعة بالدرجة اللازمة، ولذلك عجّل النظام بتنحيته جانبا خارج القطاع التعليمي.
ومن ملامح التحكم أيضا في قطاع التربية والتعليم ، فضيحة إفلاس الصندوق المغربي للتقاعد، فكعادة النظام السياسي بالمغرب لا يحاسب المسؤولين الكبار (خدامه ) الذين يعينهم على رأس المؤسسات العمومية على أخطائهم أو جرائمهم صغرت أو كبرت، فقطاع القضاء تحت إمرته أيضا ، فوزير العدل دوما موظف ليست له القدرة على الاقتراب من حرم النظام وخدامه الشرفاء؛ وإن فسدوا في الأرض سواء كانوا خداما صغارا أو كبارا ، ولذلك فهو لم ولن يفتح تحقيقا شفافا لتحديد المسؤولين عن إفلاس الصندوق المغربي للتقاعد ، بل ارتأى مرغما على أن يتبع سياسة رئيسه في الحكومة ” عفا الله عما سلف” بعدما أدركوا جميعا أن مستنقع الحكم محكوم شاسع جدا ولن ينجح في علاج مياهه العكرة أحد ولن يفلح في تحريك مياهه الراكدة وما تخفي حتى، ولذلك لم يخرج رئيس حكومتنا عن باقي الرئساء / الوزراء الأولين قبله، فلم يجد بدا من التعايش مع الفساد ومراقبته فقط، ثم التفاني في إسداء خدمات جليلة للنظام أكثر من سابقيه أضحى النظام في حاجة لها أكثر، كي يكون الرئيس الاستثناء بالفعل في نظر الحاكم الفعلي للشعب .
ولهذا في موضوع إصلاح نظام التقاعد بقطاع التربية والتعليم لوح رئيس الحكومة على أنه قادم قادر على تمرير مشرور قانون إصلاح التقاعد والذي ينبني في جوهره على زيادة الاقتطاع من أجور الشغيلة التعليمية، وكذلك رفع سن التقاعد، وكلا الحلين ينم عن ” حكرة ” واضحة للطبقة العاملة في ظل مشهد نقابي ضعيف أفلح رئيس الحكومة في كشف ضعفه، مشهد مبلقن تنخره الانتهازية والنفعية والتبعية الحزبية.
وعليه، بما أن النقابات لم تنفعها البلاغات والبيانات والمسيرات وجلسات الحوار في ثني رئيس الحكومة عن خضوعه للنظام وتنفيذ مخططاته في نظام التقاعد، فعليها أن تجتمع وتوحد الصف وتخرج ببيان إضراب لكن ليس يوم 31 ماي 2016، بل عليها أن تدعو الشغيلة التعليمية إلى تنفيذ إضراب يوافق أيام الامتحان الجهوي أو الوطني أو مقاطعة حراسة الامتحانات الإشهادية برمتها، وأكيد ستستجيب الشغيلة لهذا النداء.
ولنر تعنت الحكومة هل سيستمر؟ وتحدي رئيسها للنقابات هل سيصمد؟.