إبداعات أدبية المزهرية الأدبية الفنية

جدال ألوان مرآة النص الأدبي

د.حسن بوعجب

إذا كانت المناهج النقدية الاجتماعية قد ركزت على الواقع الاجتماعي الاقتصادي في انعكاسه على الأدب فإن هناك إمكانية لإخضاع نظرية الانعكاس لمنطق جديد  فحواه أن الانعكاس هو إخبار ضمني أدبي خاضع لمؤثرات عدة، لا تقتصر على الجانبين المذكورين سباقا، ذلك أنه إذا تحرر المرء من حمى الحساسيات الإيديولوجية سيبصر أن النص الأدبي يشير- إضافة إلى ذات المبدع الفردية- إلى المعطيات الجغرافية والطبيعية، فالشعر الجاهلي مثلا انعكاس للطبيعة الصحراوية وحياة الترحال، كما أن الشعر الأندلسي كذلك نلفيه- معبرا و واصفا في بعض الأحيان – دالا على الطبيعة الأندلسية الخلابة.

ثم أن أفضل منطق يمكن التعامل به في وصف كيفية انعكاسية النص الأدبي هو المنطق الخبري التواصلي الأدبي الذي يستند إلى أن العمل الأدبي عمل بلغة حية من أجل الإبلاغ والتعبير والتواصل ما دامت لذلك تستعمل في الأصل، وهكذا فالعمل الأدبي هذا عملية تواصلية[1] تستلزم حضور كافة أطرافها وعواملها.

المرسلالمرسل إليه-السياق- الرسالة-الاتصال-الشفرة [2]

ولأنه كذلك فانه من العبث التركيز على طرف دون الأخر كما سقطت في ذلك أهم تيارات النقد الأدبي الحديث.

ولان العملية التواصلية الأدبية محكومة بالطابع الأدبي المتحرك والمعقد فانه من المغالاة العلمية أن نساويها بما يحدث في التواصل اللغوي الطبيعي، ذلك أن الرسالة الأدبية يساهم في بلورتها كل أطراف العملية التواصلية بدرجات متفاوتة وبأشكال مختلفة تبعا لطبيعة النص الأدبي واتجاهاته وحيثياته الجلية والخفية.

وحتى نقف على ذلك أكثر فانه يحسن بنا تناول كل طرف من أطراف عملية التواصل الأدبية بالتحليل في علاقته بالانعكاس مستعينين بالتحليلات التي خلفتها أهم تيارات النقد الأدبي لما انصرف كل تيار منها الى التركيز على طرف محدد من أطراف العملية التواصلية الأدبية.

الانعكاس والمبدع :

من الناحية المبدئية الإخبارية الدلالية فالمبدع كشخصية تنعكس بدورها في العمل ألأدبي كما ذهب إلى البحث عن ذلك المنهج النفسي في النقد الأدبي مسلطا الضوء عليها باعتبارها محور الإبداع.

إلا أن الذي يعاب عليه هو تمحنه في الكشف عن شخصية خارجية فانية لا يمكن الإمساك بها بشكل علمي بحكم أن النص الأدبي لا يعطينا عنها إلا الشيء القليل [3]  ومادام هناك واقع اجتماعي معاين قد تغني دراسته عن ذلك لأن المجتمع هو في الأخير مجموعة من العلاقات المتشابكة عبر فردية[4]  ، لكنه مع ذلك يبقى المنهج النفسي في نظري صالحا بل ومطلوبا لفهم الانعكاس اجتماعيا ومن جهة مساهمة المبدع فيه .

فمن الناحية الاجتمـاعية ولفهم سليم وواسع للانعكاس ضروري الاستعانة بمقولات علـم النفس خاصة في إطـار ما يعرف “بعلم نفس الجمـاعـات “[5] أو ما يعرف بعلم النفس الاجتماعي [6] أو في إطار عـلاقة علم الاجتمـاع بعلم النفس[7]، ذلك أن الفرد المبدع ما هو إلا عينة ناتجة عن واقعه الاجتماعي مرتبطة معه بعلاقة، صواب ما يمكن القول عنها في كل الأحوال :أنها علاقة سببية[8]، وبالتالي يمكن النظر إلى طرفي هذه المعادلة النسبية من أجل فهم أفضل للنص الأدبي من جهة المرسل وقطف جميع ثماره سواء الجمالية منها أو الدلالية الواقعية .

إن العلاقة بين الفرد المبدع ومجتمعه ليست دائما علاقة مجاراة كما قد يتوهم البعض بل هي علاقة تقوم في كل الحالات على  الإثارة والاستفزاز أي أن السلطة الاجتماعية مهما بلغت ذروتها يبقى المبدع محتفظا بإمكانية اشتقاق رؤاه الخاصة من كليته الاجتماعية كما قال بذلك كولدمان [9]والتي لا تجاري أحيانا الوضع القائم بل تسعى إلى طرح الجديد أو البديل الضمني أو الصريح كثرما يكون متسما بالعكسية، حيث أن الأب المقتر مثلا قد ينزع ابنه إلى التبذير، أو أن الأسرة المنحلة خلقيا قد يخرج منها متزمت، والعكس بالعكس وارد احتمالية الوقوع في كلا المثالين، والأمر نفسه قد يقع في الأدب إذ نجد مثلا أن الرومانسية ولدت من رحم  الكلاسيكية أو نجد كثيرا من الأدباء والكتاب قد وقفوا في وجه معتقدات مجتمعاتهم[10].

ثم إن علم النفس مفيد جدا في معالجة إشكالية الانعكاس خاصة لما يتعلق الأمر بالمضامين التي يمكن أن تكون صعبة الفهم واقيعا لارتباطها بالتخييل[11]. الذي قد يبدو أنه يناقض الانعكاس والواقع لكن في حقيقة الأمر لما نضعه تحت التحليل النفسي الدقيق نجده أكثر انعكاسية أو بعبارة أنسب: أبلغ انعكاسية لأن التخييل هذا ما هو إلا تركيب إبداعي للوقائع[12] و الممكنات وانطلاق إلى عالم يرضي الذات أو يقنعها أكثر هروبا من عالم غامض أو مقلق، ولعل ما يلتقي بهذا أكثر من مقولات علم النفس هو مقولة الحلم الذي ما هو أيضا إلا واقع[13] مختمر مثلما نجده في النص الأدبي إذ يمكن أن ينتج عن اختمار الواقع في مخيلة المبدع، فإذا كان الحلم الحقيقي تحررا من الأنا[14] المعروف عند علماء النفس  فإن الحلم الأدبي هو تحرر مثله لكنه تحرر من أنا أخر مشابه وهو “أنا” المنطق والحجة والصدق المفروض أخلاقيا وقانونيا في بقية أنواع الخطابات كالخطاب العلمي أو الإعلامي أو التاريخي.

 

والحلم هنا ليس بنقيض للانعكاس والواقع ولكنه نوع من الانعكاس يمكن أن يندرج في إطار “الانعكاس الكامن أو الغامض ” بل يمكن أن يسمى انعكاسا تعريفيا للواقع عن طريق إيراد الضد” إذا ما كان متمثلا في أحلام التمني[15] أو الحنين.

ان قضية الحلم هذه لقضية مهمة جدا في كشف الانعكاس بجميع تمثلاته الخطابية خصوصا في عالمنا العربي التي تزاحمك في شوارعه أسماء (ضد مسمياتها في بعض الحالات) من قبيل بنك الصدق وكالة الوفاء مقهى الأمانة، حي الازدهار، التي ما هي إلا حلم ودليل نفسي على افتقادنا لمثل هذه القيم[16] والمسميات في عالم الحقيقة واحتفالنا بها في عالم الأحلام.

هذا عن الناحية النفسية الاجتماعية بدرجة أساس أما عن الناحية النفسية والفردية لمساهمة المبدع في الانعكاس فإنه يمكن القول اختصارا كما قال كولدمان إن المبدع واسطة مهمة[17] فاعلة في الانعكاس لابد أن تجعل مرآة النص الأدبي متلونة بلونه عندما تعكس لنا الواقع، أي أن هناك حضورا بارزا لوعي الكاتب ،إنه ليس مجرد كاميرا تصور آليا ما تصور.

لكن في نفس الوقت وكما أشرنا إلى ذلك سابقا لا بد من حضور بعد الوعي الجماعي بشكل من الأشكال في عمل الأديب إلى جانب البعد المعرفي المتعلق بمحصلاته العلمية[18] دون أن ننسى بالطبع أن هناك في كل الحالات حضورا للاوعيه[19] الفاعل هو الآخر إلى جانب الأبعاد المذكورة سابقا مهما أوتي من قوة الضبط والإرادة والتحكم، ذلك أن المصور الصحفي مثلا لما يلتقط صورة شخص في حشد جماهيري حتمي أن يلتقط في نفس الآن صورة شخص أو أشخاص آخرين أو منظر من المناظر دون أن يريد أو يقصد ذلك.

وكمثال على “الانعكاس غير المقصود” في النص الأدبي نجد ذات الأديب كنفسية أو على الأقل بعض الشذرات منها: كما نجد الذات الثقافية والاجتماعية الواقعية عامة التي تكمن في بعض المفردات المعجمية المستعملة، وعموما تدخل في هذا الإطار أبعاد معكوسة ملاحظة أو مستنتجة أو مستشفة لا يقصدها الكاتب.

والخلاصة إن المبدع تواصليا مرسل يلون مرآة النص الأدبي بلون خاص متميز بدخول عدة أطياف في تكونه بعد تفاعلها أو تجادلها وهي البعد الاجتماعي النفسي أو النفسي الاجتماعي والبعد الرؤيوي أو العقدي، زيادة على بعد اللاوعي وكل ذلك في كل واقعي مهما بدا محلقا في آفاق الخيال والأحلام التي ترسم على النص الأدبي، الذي سنتحدث الآن فيما يلي عن دوره هو الأخر في الانعكاس الأدبي.

  الانعكاس والنص  الأدبي

لفهم هذه العلاقة لا بد من الاستفادة من المنهج البنيوي في الأدب الذي ركز على النص الأدبي كلغة قادرة على البوح بأسراره دونما التفات إلى خارجه مستنيرا في ذلك باستعارة آليات عمله من المنهج اللساني الحديث[20] (الوصفي) المنكب على الدراسة الداخلية للغة مستبعدا دراستها من خارج إلى درجة إقصـاء المرجع والاكتفاء بثنائية الدال والمدلول فقط[21].

إن إشكالية دراسة النص هذه من الداخل أو من الخارج ليست بجديدة عرفت فقد عرفت في وقت سابق مع مفسري النص القرآني لما انصرف قسم منهم إلى تحليل النصوص على ضوء المعطيات الخارجية كأسباب النزول مثلا في الوقت الذي فضل فيه فيه أخرون التقيد بداخل النص منكبين على فهمه وتحليله لغويا[22] مثلما نجد الآن المنهج البنيوي ينظر إلى النص كدوال لغوية مكتفية بذاتها مشكلة لجوهر العمل الأدبي الذي لا يمكن أن تدخل حرمه معطيات خارجية تشوش على التحليل.

والواقع أن “البنيوية الجامدة”[23] غالبا ما تخطأ بتحليلها النص بطريقة مخبرية وكأنه عينة علمية مجردة من كل الارتباطات ومن كل السياقات الإنسانية لأن اللغة مهما كانت محبوكة تبقى غير مؤهلة للتعبير الكامل وللانعكاسية الأمنية ما لم يلتفت القارئ المستقبل والمحلل إلى السياق الواقعي للنص.

كثير من الآيات القرآنية مثلا ليس أبدا ينفع في فهمها[24] المنهج اللغوي ما لم يبحث عن أسباب نزولها وحيثياتها، وكذلك الأمر ايضا بالنسبة لبعض الأمثال إذ تقول العرب مثلا:” لكل مثل قصة” أي قصة واقعية.

صحيح أن المنهج اللغوي له دور جد فعال في الفهم وصحيح أننا لا ينبغي أن نقفز على إمكانيات الفهم الموجودة في دواخل النص حتى نستنفد نجاعتها، بيد أنه حتى ولو اتبعنا منطق اللغة (شعار هذا المنهج)[25]،  فسنجد هذه الأخيرة  كما أسلفنا  أنها ليست دائما أمينة في التعبير والانعكاسية أي أنها يحدث كثيرا أن تنفلت من سيطرة المبدع لتمارس “الخيانة الانعكاسية”[26] بل الأكثر من ذلك أن هذه الخيانة يؤذن بها من لدن كثير المبدعين وفق ما يمليه عليهم اتجاههم الأدبي.

وهكذا فإن استعمال اللغة من طرف الكتاب تختلف طرقه، وبالتالي فإننا نصير أمام نصوص مختلفة وليس أمام نص محدد حيث إن هذه النصوص كل وطريقته في عملية الانعكاس، وعليه فليست هناك وصفة محددة وجاهزة أو مشتركة للتحليل[27] في هذا الإطار.

أو بعبارة أخرى ليست هناك معايير محددة ثابتة لمحاكمة النصوص في انعكاسيتها، إلا أن الذي يمكن الاتفاق عليه هنا هو أن هذه الانعكاساية موجودة في كل النصوص الأدبية (ما دامت مادتها اللغة العاكسة) بأشكال مختلفة منها الظاهرة ومنها الكامنة وذلك أشبه باختلاف طرق تواجد الماء في الطبيعة.

وعموما فالنصوص لها موقع هام ومؤثر في عملية الانعكاس لما فيها من لغة أمينة عاكسة ولغة خائنة أو معقدة علاوة على لغة تعكس عبر نحققها المعجمي والأسلوبي ما تعكسه من الدلالات الواقعية النفسية أو الاجتماعية أو الجغرافية.

لكن رغم أهمية النصوص باعتبارها مؤثرات في الانعكاس إلا أن فاعلية حضور باقي أطراف العملية الانعكاسية التواصلية من شأنها أن تؤثر فيها التأثير الذي قد يكرس منطوقها أو قد يعدله أو قد يكشف عن مسكوتها الكامن مؤثرا فيه أيضا.

ويجدر بالتشبيه توضيحا القول أن الأجسام في الطبيعة كما تختلف عاكسيتها الضوئية، وكما أنها تمتص جزءا من الضوء وتعكس جزءا أخر[28] فإن النصوص الأدبية كذلك من حيث اختلاف كيفية عاكسيتها الواقعية فمن نص يمتص في دواخله العميقة الواقع ليكمن فيه إلى نص يعكسه مباشرة تقريبا إلى نص أخر يجمع بين الطريقتين إلى أخر بطريقة مختلفة ومعقدة يعكس ما يمكن أن يعكسه، وكل ذلك تبعا لنوع النص ومدرسته، فمن حيث هذه الأخيرة نجد أن الانعكاس الأدبي من جهة كيفية تحققه مرتبط بالنص الأدبي حسب منطقها وتوجهها، وهو ليس مقتصرا على  المدرسة الواقعية بل هو موجود في كل المدارس الأدبية بكيفيات مختلفة تتطلب إعمال التحليل النفسي(للمضمون خاصة) وكذا التحليل النفسي الاجتماعي لاكتشافه، فالمدرسة الرومانسية مثلا تكون قد عكست برفضها الحدود والقيود[29]. وبانسحابها الهروبي”[30] من الواقع مرحلة يأس ودمار في أوروبا بشكل غير مباشر كما أن السوريالية عاكسة للواقع  في كل الأحوال فمهما كان تخييلها نجدها تبقى منطلقة منه ومنتهية إليه بشكل أو بآخر لما نضعها تحت التحليل العميق.

أما من حيث نوع النص  الأدبي  فاننا نجد  أن الانعكاس ليس حكرا على الرواية، فالمسرح مثلا “مرآة الحياة”[31] و”الحياة مسرح كبير”[32] كما قيل، والقصة القصيرة كما قيل أيضا “لقطة من الحياة”، لكن قد يقال أن الشعر خيال في خيال، كلا، فالشعر أبلغ انعكاسية حتى لقد قيل أن “الشعر صورة ناطقة والصورة شعر صامت[33] لما فيه  من الصور الشعرية المصورة  والواصفة للواقع، بل الأكثر من هذا أن الشعر يحضر فيه أحيانا ما يمكن تسميته ب”الانعكاس الموسيقي” الذي يعكس “بالإيقاع الخارجي” خلجات الذات في ارتباطها بالواقع كما يعكس ما يمكن تسميته “بالانعكاس الصوتي” زفراتها الواقعية أيضا  عبر أصوات مثل الياء الممدودة والنون التي تعكس الانكسارية والأنين، أو مثل أصوات التفشي كالسين والشين العاكسة لزفرات الذات أو مثل الأصوات الانفجارية مثل (ب.م) العاكسة للتذمر والغضب أو مثل الهمزة و الأصوات الحلقية العاكسة لعمق الإحساس اومثل اصوات كالالف الممدودة العاكسة لشهقات النفس،وكل ذلك يبدو وكانه ترجمة صوتية حسية لشعور الانسان في شهقاته وزفراته امام وقائعه و احواله.

وكبرهان آخر على واقعية الشعر ها هو الشاعر محمود درويش يعترف بذلك إذ يقول مؤكدا:…كان شعري انعكاسا لواقعي الفلسطيني[34].

صحيح أن في الشعر ما يثير إحساسا بابتعاده عن الواقع حتى حدث أن طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته الفاضلة[35]، لكن ذلك  ليس إلا نتيجة لأمر عرضي وهو أن الشعر بالفعل من حيث لغته  بعيد عن المدلول أو المرجع الواقعي لكنه أقرب إلى الواقع من حيث الإحساس والتعبير، إذن فالبعد بعد لغوي وليس بعدا حقيقيا كما قد يتوهم البعض، ثم ان البعد اللغوي  هذا ما هو  إلا راجع لتعقيد لغة الشعر إذ هو كما قالت بول فاليري: “لغة خلال لغة”[36] أو كما سنضيف قائلين: لغة خلال لغة…خلال  لغة…لما تطالعنا اتجاهات الغموض بطلاسمها الشعرية المعقدة، زد على هذا بالتوضيح ما ذهب إليه جون كوهن بقوله أن “ما يميز النثر عن الشعر  لا يكمن في  المادة الإيديولوجية بل في العلاقات التي يقيمها هذا الأخير بين الدال والمدلول  القائمة أساسا على الانزياح”[37]، صحيح أن لغة السرد أكثر تفصيلا للواقع أشبه ما يكون بالعرض البطيء للصور السينمائية على عكس الشعر، لكنه في نفس الوقت يتوجب الانتباه إلى ما للغة السرد “من طبيعة معقدة تختلف عن النثر العادي في جوانب عدة[38].

وهكذا نعود مرة  أخرى ونلح على  أهمية النصوص من حيث دورها في الانعكاس، لكن وكما قلنا سابقا حضور باقي أطراف العملية التواصلية الأدبية من شأنه ان يأثر في هذا  الانعكاس الأدبي على قدر ما لها  من قوة وفعالية، فلنرى الآن كيف يحضر طرف  اخر مهم من أطرافها وهو القارئ المستقبل.

 

الانعكاس والقارئ:

    القراءة كعملية انعكاس

الانعكاس هنا يتحقق عبر ” تأويل ما ندركه من مدركات مبهمة غامضة غير محددة البناء سواء كانت أصواتا أو إشارات أو كلمات أو رسوما على أساس أحوالنا الشعورية أو اللاشعورية”[39] اذ ان طريقة إصلاح القارئ لمرأة النص أو طريقة تقويمه إياها تعكس ذاته القارئة بجميع أبعادها الواعية وغير الواعية، الفردية والجماعية الواقعية فالمتحكم  في القراءة والفهم هو الواقعي الفردي النفسي والمعرفي والذوقي والرؤيوي ارتباطا أو تشاركا أو تجادلا مع الواقعي الجماعي: الاجتماعي، [40] النفسي الجماعي ، وكذا الجغرافي [41]….

إن مرآة الانعكاس هنا تتأثر بل تصطبغ بلون القارئ المتولد عن تجادل أطياف المعطيات المرتبطة به السابق ذكرها حين محاولته إصلاح هذه المرآة.

– قراءة الانعكاس:

كل ما تحدثنا عنه سابقا حول الانعكاس الأدبي، وخصوصا الكامن أو الغامض منه يصير جثة هامدة ما لم يكن هناك قارئ نبيه[42] دوره الأساس  هو ترجمة أو فك الشفرات الانعكاسية في النص وإخراج الانعكاس من حيز الكمون إلى حيز الصورة التي يراها واقعية (باعتبار القارئ طرق ضروري في العملية التواصلية الأدبية) بعد أن يكون قد ساهم فيها بلون أبعاده المتعددة والمتجادلة الذي يدخل أيضا في جدال مع بقية ألوان مرآة النص: لون المبدع الناتج عن جدالات  أبعاده المذكورة آنفا، لون النص كتحقق معقد ومتعدد الأبعاد، وكل ذلك ينتهي بلون متولد عن تجادل هذه الألوان تكون مرآة النص الأدبي متأثرة به بل ومصطبغة به لما تعكس ما يمكن أن تعكسه من أمور واقعية.

إن الانعكاس النصي مهما كان واضحا مقتربا من الطابع العلمي الموضوعي يظل قاصرا عن إعطاء الصورة التامة، ذلك أن حتى المرآة الحقيقية العديمة اللون تعكس كما قيل وكما نرى اليسار يمينا واليمين يسارا، وعليه يحتاج الانعكاس حتى في هذه المرآة إلى مرأة قارئة تعيد الأمور إلى نصابها وإلى حقيقتها[43]، فما بالنا إذن بالمرأة الأدبية المتلونة والمتأثرة بأكثر من لون متجادل.

إذن فحضور القارئ المترجم مهم أدبيا بل أنه مفروض ( أي لابد من مستقبل تواصليا) ، كما أن حضوره هذا المؤثر لا يقصد به فكه شفرات الانعكاس اليا بل يفكها وفق رؤيته الخاصة الواعية وغير الواعية ناقدا أو مشاطرا…إياها، ليؤثر بذلك في الانعكاس.

       – الانعكاس ونظرية التلقي:

ركزت نظرية التلقي على المتلقي باعتباره الفاعل الأساس في العملية الإبداعية[44] كما ركز القائلون بالتجاوب على الحوار بين النص والقارئ[45]، وذلك ما يلتقي في جانب منه مع جدال ألوان المرآة( الذي تحدثنا عنه سالفا) إذا نظرنا إلى فاعلية القارئ لكن إذا نظرنا إلى حواره مع النص فإن ذلك في نظري ليس بواقع مع جميع أبعاده، فالحوار الحقيقي المفترض هو حوار رؤية القارئ مع رؤية الكاتب  التي تحدث عنها كولدمان، أما الحوار مع النص كتحقق معقد فيمكن وقوعه مع الجانب المنفلت [بإذن الكاتب أو بغير إذنه] أو الغامض المعقد منه الذي ما أكثره مع اتجاهات الغموض في الكتابة الادبية.

      

إجمالا يمكن القول أن الانعكاس بمفهومه الجديد يتحقق في مرآة النصوص الأدبية التي تحفل بألوان كل أطراف العملية الأدبية التواصلية والتي تتجادل لينتهي جدالها بلون يكون بمثابة المتولد عن هذا الجدال والذي يتحدد من خلال صفات الأقوى الغالب فيه أو بتعبير أكثر وضوحا تغلب على هذا اللون صفات اللون المنتصر الأكثر قدرة على مقاومة الألوان الأخرى لكن دون المحو التام لأي منها.

وجدير بالذكر أن جدال ألوان المرآة يخف متحولا إلى حوار كلما ضاقت الهوات والفوارق بين الذات المبدعة بجميع أبعادها وبين الذات القارئة بجميع أبعادها أيضا، والعكس يقع لما تكبر وتتسع هذه الفوارق خصوصا  لما تعبر النصوص الحدود الطبقية أو الحدود الإقليمية متنقلة بين أقطار مختلفة الثقافات والحضارات ومختلفة المعطيات الواقعية بشكل عام.

بقي أن نتساءل لماذا يتغلب لون دون آخر على بقية الألوان في جدال ألوان مرآة النص؟ الجواب البديهي هو أن الغلبة دائما للأقوى، لكن هناك معطيات لغوية دلالية يمكن أن تساهم إلى حد ما في تحديد المنتصر أو الغالب ذلك أن طبيعة النص تؤثر في تقوية لون وإضعاف آخر في بعض الأحيان، وهذا الأمر يبتدئ مع المبدع المطالب بوضع إطارات معقولة للقراءة[46] والفهم والتأويل إذا ما أراد حماية رسالته لغويا على الأقل من افتراس لون القارئ، وإذا ما أراد الحد من حريته ، إذ له إمكانية تضيق إطارات القراءة المشار إليها إلى درجة تقترب من اللغة التقريرية لتؤدي  إلى تراجع دوره غير أن هذا صعب التأتي خصوصا لما يتعلق الأمر باللغة الشعرية[47] حيث أن دوره سرعان ما يكبر لما يتراجع الكاتب عن تضييق تأطير دلالات النص.

[2]–  R. Jakobson : Essaie de linguistique général :ed de minuit 1978 ; p :19

[3]  L. Goldman .pour une sociologie du roman op. cit. p 340.341

[4] -Ibid ;p :340

[5]   ج .ب جيلفورد : ميادين علم النفس :النظرية والتطبيقية، م 1 ، تر: يوسف مراد ، دار المعارف مصر، مؤسسة فرانكلين القاهرة – نيويورك :1966

[6]  حلمي المليجي :علم النفس المعاصر، دار النهضة العربية 1976 ط.2.ص 35

[7]  – مصطفى الخشاب علم الاجتماع ومدارسه وزارة الثقافة  القاهرة، دار الكتاب العربي ،1967 ص: 40-41

[8] – وليست علية ثابتة.

[9]–   L. Goldman le dieu caché ; op.cit ;p  349

[10] – دروس في الفلسفة- مرجع سابق- ص:473.

[11] – على نحو ما قال كولدمان، إذ صرح أن هناك اختلافات شديدة  بين المضامين في الرواية  وبين حقائق الواقع:

– Goldman. Pur une sociologie du roman ;  op. .cit ; p :41

[12] – جميل صليبا: علم النفس- دار الكتاب لبنان 1992. ط. 3ص: 433- التخيل الإبداعي-.

[13] – عزت راجح  أحمد: أحمد علم النفس: المكتب المصري الحديث 1975 ط 8 ص: 151.

[14] –  المرجع نفسه،ص:148

[15] – أن يحلم الفرد بالغني مثلا فذلك يعكس فقره لنشدانه نقيض وضد حالته الواقعية، أي أن نشدان  البذيل يقيم الدليل على وجود مشكلة واقعية .

– الحنين إلى أمر ما في الماضي يعكس افتقاده في الحاضر

-الانعكاس مرتبط بالزمن با بعاده الثلاثة لكنه دائما يحيل بشكل غير مباشر على الواقع الحاضر.

[16]– فاخر عاقل: اصول علم النفس وتطبيقاته- دار العلم للملايين بيروت 1975 ،ط 1، ص: 134.

[17] – Goldman ; pour une sociologie du Roman p : 342- 343.

[18] –  التي قد ينعكس جانب منها هي الأخرى في النص الأدبي.

[19]–  لا وعي المبدع قد يكون منفذا يتسلل منه بعض أبعاده الأخرى مثل الوعي الجماعي .

[20] – صلاح فضل: نظرية البنائية في النقد الأدبي، دار الأفاق، بيروت 1985،. ط 3

[21] – ينظر التوسع : F.de Saussure : Cours de linguistique générale, Payot 1971

[22] – ابن خلدون، المقدمة(مرجع سابق-) .ص : 348-349.

[23] – كما قال كولدمان في تمييزه بين البنيوية التكوينية والبنيوية التي وصفها بالجامدة اذ لا يتفق معها :

– Pour une sociologie du Roman ;op.cit ;p :14

[24] – يقصد هنا الفهم الصحيح  وليس الفهم الجمالي السطحي.

[25] – ينظر: صلاح فضل: نظرية البنائية في النقد الأدبي، دار الأفاق بيروت 1985 .

[26]– لا توجد انعكاسية كاملة بين العلامة وما تشير إليه ” سعيد علوش : معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة.

[27] – مثلما قد يقول الببنيوييون باعتبا رهم  اللغة القاسم المشترك للاعمال الادبية وبالتالي هي الملجا في التحليل في نظرههم ، لك  نظرتهم هذه لا تراعي اولا اختلاف طرق استعمال هذه اللغة.

[28] – René Kento, Daniel lever : physique chimie, Armand colin Larousse, bordas, 1998. P.72.

[29] –  ينظر: محممد مندور: الادب ومذاهبه،مكتبة نهضة مصر 1965.

[30] –  من مصطلحات علم النفس  وهو يعني الانسحاب من مواجهة  الواقع وركوب  عوالم نكوص او احلام او نحوهما.

[31] – موسوعة الزاد –مرجع سابق- ج:7، ص:1741

[32]  – جراهم جرين نقلا عن مجلة العربي الصادرة عن وزارة الإعلام  بالجمهورية الكويتية ،عدد:  221  ، ابريل1977.ص:133

[33] – بلوتارك: نقلا عن:د.شاكر عبد الحميد في كتابه  “عصر الصورة” ،سلسلة عالم المعرفة،المجلس الوطني للثقافة والعلوم و الآداب  بجمهورية الكويت، يناير 2005،ص:172.

[34] –  يضيف محمود درويش:”…انا مثل اي شاعر اخر ابن ظروفي التاريخية،تعبيري الفني هو انعكاس…،انه ليس انعكاسا سهلا بسييطا، انه انعكاس اكثر جدلية وتعقيدا….” نقلا عن  كتاب:اعلام الادب العربي المعاصر:سير وسير ذانية، إعداد روبرت كاميل، مركز الدراسات للعالم العربي المعاصر.جامعة القدس.بيروت 1996،ج 1، ص:594.

[35] – روبرت هرت: الفن والمجتمع، تر:فارس متري ظاهر ،دار القلم بيروت  1975،  ص: 146 .

[36]   نقلا عن الدكتور عز الدين إسماعيل في كتابه” الأدب وفنونه” ، دار الفكر العربي،القاهرة،ابريل 1976.

[37] – لجون كوهن:بنية اللغة الشعرية  ترجمة محمد الوالي، خالد العمري، دار توبقال، البيضاء1986. ط ص191

[38] – رولان بارث: النقد البنيوي للحكاية، تر: انطوان ابو زيد، منشورات عويدات،بيروت-باريس1988، ط:1، ص:93

[39] – د. أحمد عزت راجح: أصول علم النفس: دار المكتب المصري،.الإسكندرية 1975 ، ط: 8   ص:494

[40] – نتحدث هنا عن سوسيولوجية القراءة.

[41] – جغرافية الفهم حاضرة أيضا في بعض الأحيان .

[42][42] – إدراك الانعكاس واكتشافه درجته ترتبط بمستوى القارئ، فالقارئ العادي ليس كالقارئ الناقد من حيث نصيب هذا الاكتشاف والإدراك.

القارئ العادي قارئ الرواية مثلا قد يلهب أعصابه التشويق ويلهيه عن الاهتمام ببعض الجزئيات التي لها قيمة انعكاسية كبيرة إذ نجده حاصرا اهتمامه فقط على المصير التسلسلي العام لنمو الشخصيات أو المصير العام للبطل؟ والأمر نفسه يقع عند متتبع قصيدة أو أغنية حيث قد لا يسأل لا عن كاتبها ولا عن سياقها ولا عن أبعادها بل قد لا يهتم حتى بالمدلول القريب لكلماتها تحت تأثير وقع الإيقاع وجمالية الصور، والدليل على ذلك أنه غالبا ما تكون القراءة الثانية أو الثالثة أكثر فاعلية في كشف بعض الأبعاد بعد التحرر بفعل التعود من الوقع السحري الأدبي.

[43] – المرآة القارئة في الأدب ليست على هذا القدر من الأمانة والفعالية لأنها متلونة.

[44] – روبرت، س. هولاب: نظرية التلقي (التلقي (مقدمة نقدية) ترجمة خالد التوازني: الجلالي الكدية: منشورات علامات 1999، ط:1.ص: 55.

[45] – المرجع نفسه، ص: 84.

[46] – وليس منسجا مفتوحا لكل المعاني التي قد تخطر على بال القارئ أي هنا يجب وضع حدود أمام حرية القارئ ضمانا لفاعلية الكاتب في تأطير القراءات داخل إطار معقول وأدبي في نفس الوقت.

[47]– ينظر للتوسع  جون  كوهن :بنية اللغة الشعرية، مرجع سابق،ط: 1.

 

اترك تعليقاً