ميمون أم العيد: توصلت برسالة من أستاذة تود أن تصل مصطفى ابن قرية بوديب نواحي تنغير.. وهذا نص الرسالة:
*********************************
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
مساء الخير مصطفى ،
أقول لك مساء الخير لأن الوقت مساء عندي هنا..إنها ليلة الخامس عشر من مارس من هذه السنة الجارية ، الجارية جدا يا مصطفى ، جارية حتى أني أكاد أسمع لهاثها في أذنيّ .
رأيتك وتعرّفت إليك من صورة لك في الفايسبوك ، رأيتك وأنت تطل على العالم بنصف وجه، تحت لحاف أزرق ، وأنت تتوسّد مخدّة حمراء جميلة كنت أملك مثلها ، أعرف أنه من المفترض أني أراسلك بشأن أنضج من مخدة حمراء ولحاف أزرق، لكني أردت حقا أن أخبرك بأني توسّدت نفس المخدة أيضا، لنقل يا مصطفى بأني وضعت أيضا رأسي على بعض الأوجاع الحمراء الشّاقة..
دعنا من هذا ، ولأعرّفني إليك، أنا إلهام ، أدرس الصبيان مثلك اللغة العربية منذ خمس سنوات بإحدى بلدات آيت بعمران بالجنوب..، مذ سمعت بالقصة ، وأنا أراني أركب الطريق والحافلة إلى قريتك ( لكن الأمر استعصى عليّ أسفا )، أردت حقا أن أركب الطريق وأهيم وأدوخ في الحافلة ذات رائحة البنزين المقيتة ، وأصل إلي قريتك متعرقة ، لأصافحك ، كنت سأصافحك بيد واحدة يا مصطفى ، كنت سأحتاج يدا واحدة لأصافحك بها وكنت ستمد لي بيد واحدة أيضا لتستقيم المصافحة بيننا.. أرأيت؟ يد واحدة يا مصطفى هي كل ما نحتاج لنصافح بعضنا.
يد واحدة تتحد بها عروق الناس ، وتنقل العروق دم المحبة والوئام والتواصل ، وأحيانا يا مصطفى يتم ذلك ببضع أصابع فحسب..، كما يقع مع الرضّع وأمهاتهم ، عندما يمد هؤلاء الإبهام والسبابة إلى أيادي أمهاتهم في حركة دائرية مجيدة.
أعرف أنهم عمّروا آذانك بالمثل الأخرق القائل: ” اليد الواحدة لا تصفق”.. هذا أكثر شيء مغفل وأخرق وسخيف وأرعن وخاطئ ستسمع به يا مصطفى ..بلى إنها تصفق، اليد الواحدة تصفق، وتصدر صوتا ساحقا بالجمال، صوتا يشبه صوت جناحي صقر يقلع ، يقلع ويغادر الأرض إلى زرقة السماء، زرقة تماثل زرقة اللحاف الذي كان يغطيك إلى نصف وجهك في الصورة التي رأيتك فيها.
إنها تصفق يا مصطفى ، صدقني، لقد خبرت ذلك بنفسي، أنا أيضا جربت أن أصفق بها ونجحت وخاب ظن كل الطرق التي أخبرتني بالعكس، أتعرف كيف فعلت بها ذلك؟
ضربتها بالجدار مرة ومرات، وبأرضيات صلبة وأحيانا براحات أياد أخرى بدون رفق ، وتناهى إلى سمعي صوت عظيم من التصفيق ، ضربتها بكل وهم أخبروني بأنه قاس وصلب وقوي وسيهزمني، وضربتها أيضا بمثيلاثها ممن أشهروا بها في وجهي محاولين إغلاق منافذ ما ، وسمعتها تصفق .
مصطفى ، يمكنك أن تصفق بيد واحدة ، كما يمكنك أن تكتب بيد واحدة ، يمكنك أن تكتب باليد الأخرى يا مصطفى ، يدك الأخرى الطاهرة ، ولن يوجد قلم لن يشرفه أن يكون بين أصابع هذه اليد الأخرى .
أعرف أني أكبرك سنا ، وأني كان يمكن أن أكون أستاذك جدا ، ولو أنهم أرسلوني إلى إعداديتك ، لكني لا أستطيع أن أمنع نفسي من أن أتوجّه إليك بتوسّل ، أتوسل إليك يا مصطفى أن تجيب عن السؤال رقم 1 ، عن التمرين الحقيقي رقم 1 في الصفحة 1، من الكتاب غير المدرسي ، سؤالك : بماذا سأكتب؟
أجب عنه يا مصطفى بهمّة وقوة واستماتة من أجلك وأجلي وأجل من كانوا برفقتك وأجل من خذلوك أيضا ، أجب عنه ، بيدك الأخرى ، يدك الأخرى الطاهرة يا مصطفى.
مع احترامي الكبير لك، ومتمنياتي لك بالقوة والأمل وكل شيء جميل
بارك الله لك وفيك وأنار لك دربك بالكثير من الكتابة .
سلامي لوالديك ، وكلّ أهلك
اكتبْ.
إلهام
**********************
من التلميذ مصطفى إلى الأستاذة إلهام
أستاذتي الكريمة إلهام ، اعذريني مسبقا إن وجدتِ خطي رديئا، فأنا- للأسف- لم أتعودْ بعدُ على الكتابة بيدي اليسرى، اليد الوحيدة التي بقيت لي، ولو كنتُ أعرفك قبل الحادث الأليم لكتبت إليك بخط أوضح وأجمل، لو اطلعتِ على دفاتري القديمة لتأكدتِ من قدرتي على جمع الباء والسين والميم والتاء حتى أصورها بسمة رائعة، ولرأيت كيف أضم الحاء إلى الباء حتى يصيرا حبا للناس وللحياة. وكيف يلتحم الألف بالميم واللام فيشع الأمل في المستقبل. لكن الحروف الآن لا تطاوع يدي اليسرى. خانتني أصابعي يا سيدتي فاعذريني حتى حين، فلا بسمة تخرج منها ولا حب ولا حتى أمل..
قبل أسابيع قليلة فقط – كما تعلمين-، كنت أملك مثل معظم الأطفال يدا يمنى تمسك القلم بثقة، تخط الحروف جميلةً مرصوفة على الخط كما يجب، وترسم وردا ونخلا وحماما وعنادل، يدا أسلم بها، أعانق بها، أخفي بها وجهي لحظة حزن أو خجل، وأضمها إلى أختها فأرفعهما إلى السماء في لحظة دعاء وتبتل. أما اليوم فكتابتي بطيئة مترددة تذكرني بأيام الدراسة الأولى وبخطواتي الأولى في درب الحياة.. إنه القدر يا سيدتي، وهو بالمناسبة عنيد أكثر من اللازم في بلدي، حيث يعز هنا على أمثالي الحصول على أبسط الأشياء التي تحميهم من نهاية مأساوية كهاته التي أعيشها هذه الأيام. أنا مصطفى، الطفل الذي رأيتِه في الصورة الأولى محشورا في ذات اللحاف الأزرق والمخدة الحمراء التي يسعدني ،بالمناسبة، أنك كنت تملكين مثلها. أنا الذي تحاشيت الإمعان في أعينكم وفي أعين كل الزوار الذين قرروا عيادتي في تلك القاعة البئيسة، حتى لا يشيحوا بوجوههم جانبا فلا أرى الدمع يترقرق في المآقي ولا الحيرة تجتاح الملامح والنظرات. أنا الذي لم أصخ السمع إليكم حتى لا أسمع مزيدا من عبارات الشفقة تتردد بين الصدى والصدى، فالشفقة أشد إيلاما من بعض المصائب حين تفاجئنا، أنا مصطفى الذي اصطفاه الله وامتحنه لحكمة وحده سبحانه من يعلمها ويدريها.. قد لا أحتاج أن أعطيك تعاريف أخرى ولا تفاصيل أكثر، فأنا من أبناء المغرب الشرقي الذين يحملون على صفحات وجوههم، تعاريفهم، جراحهم وأوجاعهم أينما حلوا وارتحلوا، أولئك الذين تستطيعين قراءة خريطة التعب والحزن والغبن القديم في سيماهم.. الذين لم تكن أحلامهم يوما ما كبيرة أكثر من اللازم، لكنهم مجبرون على صنع أحلام الآخرين، علمنا القهر في هذه البلاد أن نقزم أحلامنا حتى لا نزاحم بها أصحاب الأحلام الكبيرة، وتعلمنا مجبرين منذ الصغر كيف نمد أرجلنا على قدر لحافنا، أن نعمل في الصيف كرجال حقيقيين لتوفير ثمن الكتب، ونقطع المسافات تحت الشمس الحارقة أو البرد القاسي، أو نستقل شاحنة لنقل الرمال حتى نصل قاعة الدرس قبل بداية الدرس . أنا الطفل مصطفى الذي أُجبر على البكاء في صمت، لأن الرجال هنا لا يبكون كما تعودت السماع منذ طفولتي، أنا الذي قُدر لي ولأمثالي أن نكبر في عام أو عامين ونخالف كل قوانين الطبيعة التي تحتفي بالصغار في مثل هذه السن..
علمتنا هذه الأرض يا سيدتي ألا نخذلها، وأن نعطي دون أن ننتظر الجزاء ، علمتنا أن نصمد على ظهرها صابرين مقهورين حتى تضمنا يوما في جوفها، وننذر أرواحنا للموت من أجل الأهل والوطن – الوطن الذي نحن فقط من يعطيه تعريفه اللائق به- فذاك جد شهيد في بوكافر، وذاك أب غريق في البحر، وبينهما أحفاد وأبناء قد ينتظرون نفس المصير لنفس الغاية النبيلة دائما.
عذرا أستاذتي، إن كنت مأساويا أكثر من اللازم، فقد أحببت فقط أن يستكمل هذا الحزن حلقاته كي أشفى منه شفاء كاملا، أنا الذي لم أتصور يوما، أن أدفن في هذه الأرض جزءا من جسدي وفي هذه السن بالضبط، وأن أستفيق لأسأل ذلك السؤال البريء البسيط القاسي، الذي لم يجب عنه إلا ذوو القلوب الكبيرة مثلك حين قلتُ ( بم سأكتب؟). الحقيقة أن هذا كل ما تذكرتُه وانأ أستفيق من إغماءتي ممددا على سرير بارد في مستشفى بعيد عن بلدتي . وكنت سأسأل أيضا : بم سأصفق؟ بم سأعانق أحبائي عندما أعود أو يعودون من سفر طويل،ألا ترين أن عناق البسطاء حار جدا، ويحتاج بدل ذراع واحدة ذراعين ! بم سأتسلق النخلة الباسقة لأجني أولى التمرات في الخريف القادم؟ والأصعب بم سأقنع أبي وأمي وكيف سأقول لهم أن يدا واحدة تكفي للقيام بكل هذه الأشياء حتى لا يضطروا إلى إخفاء دمعتهم العنيدة التي تنوب عن الكلام في حالات الوهن وساعات الضعف، خصوصا عندما يساعدونني في أيامي الأولى على غسل جسدي، وارتداء ملابسي وفعل أشياء يومية اعتدت القيام بها وحدي عندما كنت أملك يدين.
اطمئني يا سيدتي، فرسالتك وصلت، ويوما ما سألتقيك، لأثبت لك أني صرت فعلا رجلا كما تمنيتِ وكما طلبتِ،وأني أكتب تاريخي باليد الأخرى وخطي صار أجمل.. لكن، ربما لن أصفق ! ليس عجزا مني أو اعتقادا بأن اليد الواحدة لا تصفق، في الأخير قد لا أجد ما أو من أصفق له، فقد تعب أجدادي وكل من سبقوني من التصفيق لكل من يصعد منصة، لكل من يَعِد بحياة أرغد، لكل الذين مروا من هنا وتكلموا عن الرخاء والعدل والنماء وأشياء أخرى كثيرة لا تسعها إلا قواميس الكذابين ولغات المحتالين..
أعرف انك بكيتِ أو تبكين من أجلي الآن، فالذين لا يبكون لا يكتبون.. ليس بالضرورة أن يكون دمعك ماء مالحا ينساب على الخدين، فبكاء القلب عندما نتظاهر بالقوة أقسى وأَمَرُّ وأبلغ وأصدق. لكن رجاء، كفكفي دموعك أستاذتي، فنحن سنلتقي يوما ما كما وعدتك، حتما سنلتقي، حتى لو ناءت بنا المسافات وأصابتنا الطرق المتعرجة بالدوار، سنلتقي في مدرسة ما، في شارع ما، أو حتى على صفحة كتاب، أو في حلم ربيعي لا يوقظ منه إلا صوت عندليب أو حفيف شجر.. سنلتقي لنضحك سويا على الزمن الذي سلبني يدا دون أن يسلبني الكتابة، على القدر الذي سلبني أسباب البسمة لكن لم يستطع أن يمنعني من الابتسام..
رزقك الله الصحة الدائمة والسلام على قلبك الكبير.
يوسف الناصري نيابة عن الطفل مصطفى شافاه الله.
الرسالة الجوابية التي كتبتها نيابة عن التلميذ مصطفىى منشورة على حائطي في الفيسبوك