قضى لمندخ عقدا من الزمن في الجارة الشمالية التي وصل إليها على متن قارب صغير، بعدما نجا من موت محقق. أمضى ثلث المدة مختفيا عن أنظار الشرطة التي تطارد المهاجرين السريين بشدة، ليلتحق بأحد الحقول الزراعية لمسن ثري، عاملا مياوما بأجر زهيد، يسد به جزء من تكاليف حياة الغربة، في انتظار تسوية وضعيته القانونية هناك. وهنا كانت تفرح (بتسكين الفاء ) قد خطبت منذ حولين ونيف لابن الجيران المرخي، تتويجا لقصة حب كبيرة. كان المرخي أكبر إخوته، ولم يحصل من التعليم إلا قليلا. فقد كان ضحية لحملة التوظيف الشهيرة التي “راح ضحيتها” المئات من الشباب الصحراوي، ولما لم يتموا تعليمهم بعد. فساقته الأقدار إلى وظيفة صغيرة بجماعة نائية. يتكبد مشاق السفر وطول الطريق إليها على متن سيارة “لاندروفر” كل مرة راكبا في المقاعد الخلفية لأن المقعدين الأماميين من نصيب النسوة والمسنين. يعيش المرخي في أسرة يعيلها شيخ متقاعد يؤم الخزينة في اليوم العشرين من كل شهر ميلادي، ليتقاضى راتب تقاعده البسيط، الذي ورثه عن سنوات خدمته في الجيش مدة تربو على ثلاثة عقود، أفنى خلالها زهرة شبابه مدافعا عن الوطن، وأم أنهكها السكري والضغط والكوليستيرول والروماتيزم، تعيش الأمراض في جسمها كالديدان، وأختين وأخ أشقاء جميعهم. قبل سنتين، وبعدما سوى وضعيته القانونية، تمكن لمندخ من الحصول على عمل في إحدى وكالات الأسفار، مدعوما بلغة “سيربانتيس” التي كان قد درسها بالجامعة ثلاثة سنين، و غادرها قبل إتمام دراسته. ورث المرخي وضعا اجتماعيا بئيسا بعيد وفاة الأب الطيب. وتعاظمت عليه المشاكل من كل جانب، فهو المعيل الوحيد لأسرة فقيرة الحال، و مجهولة المآل. فالإخوة يتابعون دراستهم بالثانوي والجامعي، وأحوال الأم الصحية تسوء يوما بعد يوم، فما كان منه إلا أن قصد بنكا، واستلف قرضا ربويا من أجل إصلاح دار الأسرة المترامية الأطراف، فرغم ما أنفق عليها لا تكاد أشغال البناء تتم، حتى تبدأ من جديد، فمثلها كمثل عانس بلغت خمسين سنة، وما تزال تنفق على الزينة لتبدو بمظهر الشباب، ولكن هيهات هيهات، فهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟! دار ابتلعت عشرات الأطنان من الإسمنت والحديد وغيرهما من لوازم البناء، وفي كل مرة يستعجل البنائين للإتمام، عله يحقق حلمه ويتزوج الحبيبة المنتظرة تفرح. فمطلع كل شهر يعصف القرض براتبه الذي لا يتجاوز العشرة أوراق من فئة 200 درهم، فينفق ما تبقى على أسرته وتمدرس إخوته. فمذ دخلت خطوبته لتفرح عامها الثالث وهو يتلقى الطلبات تلو الطلبات من صهره، يستعجله لإتمام هذا الأمر الذي طال انتظاره أكثر من اللازم. عقد لمندخ العزم على القدوم إلى الديار في عطلة هي الأولى من نوعها منذ عقد من الزمن، فهاتف أهله مخبرا إياهم بعزمه على المجيء والزواج. وطلب منهم أن يخطبوا له ابنة خالته تفرح التي لم يعلم بخطبتها من ذي قبل. فقد كتمت دماحة الأمر عن أخيها، وظلت تزين لها فسخ الخطبة، وانتظار لمندخ القادم من أوربا بماله وجاهه، فتأبى تفرح إلا أن تنتظر حبيبها المرخي الذي ترجو أن تكون لغيره ولا يكون لغيرها. فلم تتصور يوما أن ترتبط بأحد أقربائها، رغم اتصالات هاتفية عابرة للقارات كانت تتلقاها من ابن خالتها عبر الهاتف الثابت ببيت الجارة دغباجة. في حين ظل لمندخ ينسج أحلاما وردية للارتباط بتفرح، يمني النفس بها، والفؤاد يهواها. توجه أبواه إلى عائلة تفرح لخطبتها، فاستقبلهم الأب استقبالا حارا يليق بمقدمهما، ووجدا عنده حفاوة كبيرة، فعرضا طلبهما وحظي بالقبول على الفور، دونما عرض الأمر على المعنية، و في إعراض تام عن مآل خطبتها السابقة للمرخي، رغم التحذير الشرعي في الموضوع (الحديث). وبعدما انصرفوا، أخبرت الأم ابنتها فأعرضت باكية، “أنت السكيطة وبوك السكين” وكلام الرجال يسري على النساء. هكذا ختمت الأم إخبارها بنبرة حاسمة. وصباح اليوم الموالي علمت تفرح أن والدها أوفد رسولا إلى المرخي يخبره بفسخ الخطبة بعد طول انتظار، مستشهدا بالقول الشعبي المأثور “النساوات ما يصونو، اللي جاها رزغها تلحكو”. بلغ التأثر بالمرخي مبلغا عظيما بعد ما وقع، وأخبر بني عمومته الأقربين بالأمر لعلهم يتدخلون، فما كان جواب قومه إلا أن قالوا إن ذلك شأن خاص، ولا نتدخل في شؤون أسرتين اجتمعتا وتفرقتا من دون حضورنا. أية “اجماعة” هاته التي تقاعست عن إصلاح ذات البين؟! هكذا حدث المرخي نفسه. وصل لمندخ ليلا بسيارته الفاخرة، و هيأت له عائلته استقبالا يليق بوافد قضى عقدا من الزمن بديار المهجر. بدأت التحضيرات للزفاف، وتفرح لا تبرح غرفتها إلا لماما. كان الحزن مخيما على غرفتها، فقد اعتزلت العائلة، ولم تعد لها رغبة في شيء. الارتباط بالمرخي لم يعد ممكنا بعدما كان مرغوبا ومطلوبا. في حين يبقى الزواج من لمندخ المرفوض والمغصوب ممكنا ومتيسرا. عزمت تفرح على لقاء المرخي لقيا الوداع، فأعدت العدة، ورتبت معه موعدا بالواحة المجاورة للقصبة القديمة في أقصى جنوب المدينة، ولما خرجت متزينة ومتعطرة لمقابلة الحبيب في لقاء الوداع، وجدت لمندخ في انتظارها بالباب، فعرض عليها المرافقة إلى السوق لتختار الهدايا. وافقت وهي راغمة، ولما أن مرا بالشارع الكبير تراءى لها المرخي يذرع الشارع في اتجاه الطريق المؤدية إلى المكان الموعود. وعلى حين غرة التفت إليهما، فوقعت عيناه على السيارة ذات اللوحة الأجنبية، فإذا هي جالسة بجانب ابن خالتها الخطيب الجديد وقد تزينت بشكل لافت. ولما مرا بجانبه سمع نغمات موسيقى موريتانية تشي بالفرح والسرور تنبعث من السيارة. فطفق راجعا، فقد كان هذا الموقف كافيا للعدول عن اللقاء وهجر اللقيا. حنق مماثل حل بالمغلوب على أمرها لما رأت خطيبها السابق، وهي تعلم أنه ظن بها سوءا وهي بريئة من ذلك، وهو لا يدري. عادت إلى بيتها بعيد المغرب، فدخلت غرفتها وانفجرت باكية، فانهمرت عيناها بدموع سوداء اختلطت بالكحل، وسالت على وجنتيها. ظن المرخي بها الظنون بعد ما رآه منها، وبدأ يتعايش مع الأمر، عاقدا العزم على نسيانها والزواج من أخرى في أقرب الآجال، انتقاما لكبريائه وجبرا لخاطر والدته. وصباح اليوم الموالي تلقى رسالة منها، خطت بقلم أسود وحملت آثارا لدموعها السوداء حتى يصدقها. وأقسمت له بأغلظ اﻷيمان أنها لن تكون لغيره، ولو تزوجها لمندخ، فقلبها مع المرخي، وستفعل ما بوسعها لافتعال المشاكل، وتطلب الطلاق في أقرب فرصة معتذرة عن الموقف الأخير، بعدما استفاضت في شرح الأسباب بتفصيل. ولما أن حان الوقت المعلوم، زفت تفرح للمندخ في حفل بهيج، على مقربة من بيت المرخي، فهما جيران يقطنان في نفس الشارع. بعد أيام اقترحت الأم على ابنها الزواج من حفيدة أختها بالمدينة المجاورة. فتاة يافعة تدعى حنان، غادرت المدرسة بعدما رسبت مرتين في المستوى الإشهادي للإعدادية، ولما لم تكمل ربيعها السادس عشر، سليلة أسرة فقيرة تعيلها أرملة لزوج قضى عليه الموت. طلب المرخي مهلة لرؤيتها والتحدث إليها، ولما رآها وافق على الفور. بدأت الترتيبات اللازمة للزفاف، فقصد البنك مرة أخرى واستلف قرضا ربويا جديدا، و تزوجها على عجل. كانت حياة تفرح ولمندخ قد بدأت بحب من جانب واحد، في حين تقابله هي بجفاء مشهود. لم يعر الأمر اهتماما كبيرا -فهي البداية-، على أمل أن تستوي الأمور بينهما في المستقبل.