الذين استمعوا، نهاية الأسبوع الماضي، إلى حوار رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، مع إذاعة «شدى إف إم» خرجوا بانطباع أن رئيس الحكومة لا شيء لديه يقوله للمغاربة في هذا التوقيت. أعاد كلاما معروفا، ومواقف سبق له أن كررها، وتحليلات سمعناها عشرات المرات، حتى يخيل للمرء أن بنكيران وحده الذي ينسى أنه قال الكلام نفسه عشرات المرات. وللحقيقة، فإن الصحافي الذي حاور المسؤول الثاني في الدولة هو نفسه لم يوفق في البحث عن أسئلة جديدة تخرج بنكيران من دوامة تكرار الكلام نفسه، وترديد الجمل ذاتها. الصحافي نفسه بقي سجين المواقف السابقة لبنكيران ولم يتطلع إلى المستقبل.
الأمر لا ينحصر في تمرين إعلامي لم يكن ناجحا، الأمر أبعد من هذا.. رئاسة الحكومة في بلادنا، كما جل المؤسسات السياسية، لا تنتج أفكارا جديدة ومشاريع جديدة ومبادرات خلاقة، وتصورات غير تقليدية لإدارة الشأن العام، للبحث عن حلول للمشاكل، لشد انتباه الناس البعيدين عن الاهتمام بالسياسة. نعم، بنكيران آلة تواصلية جبارة، لكن خلف التسويق الممتاز هناك بضاعة «على قد الحال». جل عمل الحكومة الحالية بقي رهين إدارة الملفات الرائجة، وترقيع «جلابة» البلاد المليئة بالثقوب، وهذا مرده أربعة أسباب:
يتمثل السبب الأول في أن الحزب سقط منذ اليوم الأول في نظرية تقول: «كن نظيفا في السياسة واصمت». من كثرة الفساد في المغرب تحولت نظافة اليد إلى عملة وحيدة في يد البيجيدي، الذي وقع في شراك تفكير ضيق يعتبر النظافة والاستقامة هما كل شيء في سيرة الوزير، والحال أن هذا تفكير «تبسيطي جدا»، إذ يمكن للإنسان أن يكون نظيفا ومبدعا، مستقيما وصاحب مشروع ورؤية لإدارة بلاد متخلفة مثل المغرب. بدعوى أن يده نظيفة، أعفى حزب العدالة والتنمية نفسه من الاجتهاد في وضع البلاد على سكة نموذج اقتصادي واجتماعي جديد، واكتفى بإصلاحات جزئية على أهميتها (مثل إصلاح صندوق المقاصة وإصلاح أنظمة التقاعد والاهتمام أكثر بالجوانب الاجتماعية)، لكن بلادا مثل المغرب ميزانيتها السنوية أقل من رقم معاملات شركة أوروبية، أو غلاف دعم إعادة التكوين في فرنسا (32 مليار أورو)، تحتاج إلى أكثر من إصلاحات جزئية.. تحتاج إلى مشروع أكبر يوسع الناتج الداخلي الخام، ويخرج اقتصاد البلاد من الارتهان إلى المطر وتقلبات الطقس وأسعار النفط، وعدد السياح…
ثاني سبب جعل حكومة بنكيران تبقى محصورة في مجال ضيق من حيث المبادرات الكبرى والمشاريع المهيكلة (باستثناء مشروع الطاقة النظيفة في ورزازات وهو مشروع خرج من الديوان الملكي، ومشروع الصناعات الخفيفة للسيارات في طنجة وهو مشروع بدأ مع إدريس جطو، ومشروع المخطط الأخضر وهو مشروع لم يعرض إلى الآن على عين الدرس والتقييم لمعرفة قيمته المضافة ومبررات الملايير التي تصرف عليه)، هو أن جزءا كبيرا من زمن الإصلاح ضاع في الاضطرابات التي عاشها البيت الداخلي للحكومة، حيث تعرضت الآلة التنفيذية لشلل لأشهر بعد انسحاب حزب الاستقلال منها لأسباب مازالت مجهولة، كما أن فريق التقنوقراط الذي دخل إلى الحكومة بقي يشتغل بمعزل عن أي تصور مشترك (انظروا إلى الخلافات التي تفجرت بين بنكيران ووزير التعليم بلمختار)، وهذا ما يطرح بإلحاح الحاجة إلى الخروج من مصيدة الحكومات الائتلافية التي أصبحت من ثوابت البلاد السياسية، في الوقت الذي تعتبر الحكومات الائتلافية استثناء في جل الديمقراطيات حول العالم، فالجميع يقر بأن الحكومات الائتلافية تضيع وقتا وجهدا من زمن الإصلاح، وهي لا تصلح لاتخاذ قرارات كبرى أبدا.
ثالث سبب جعل حكومة بنكيران عاجزة عن وضع مشروع اقتصادي واجتماعي كبير لمغرب الغد هو، من جهة، ضعف الخبرة وقلة الأطر التي يتوفر عليها حزب كان مهمشا ووجد نفسه، في بضعة أشهر، في قلب جهاز الدولة، ومن جهة أخرى، ضعف انفتاح المصباح على الطاقات الكثيرة من خارج الحزب، سواء الطاقات الموجودة في المغرب أو الموجودة في المهجر، حيث يعيش خبراء كبار ومديرو شركات ناجحة ومغاربة يحملون قيمة مضافة لبلدهم (كيف يعقل ألا يدخل الحزب أي تقنوقراطي قريب منه أو يشاطره التوجه الإيديولوجي نفسه إلى الحكومة)، حيث بقيت قيادة الحزب تدور بين أعضاء الأمانة العامة للحزب، والوجوه التقليدية المنحدرة من التعليم ومن الإدارة المغربية دون الانفتاح على أطر أخرى.
أما رابع سبب أعاق تفكير الحكومة في مشاريع كبرى ومبادرات مهيكلة، فهو تشبث بنكيران بفكرة «الملك رئيسي المباشر»، والبلاد تمشي منذ قرون بمؤسسة هي كل شيء في المغرب، ما جعل بنكيران لا يشتغل بالدستور بل بالعرف الذي أرسي منذ عقود، وجعل من الحكومات مجرد أدوات لتنفيذ المخططات الملكية، وحول رئيس الحكومة إلى مجرد مساعد للملك، وليس مؤسسة على رأس الجهاز التنفيذي المنتخب، وهو ما يعكس المقولة التي يرددها بنكيران أكثر من مرة: «جينا نعاونو فقط»، في حين أن بنكيران كان أمامه المجال واسعا لكي يطبع علاقته مع القصر من باب شرعية الإنجاز والقدرة على حل المشاكل، وليس من باب التخلي عن الصلاحيات والاختصاصات الدستورية والاتجاه إلى تأويل رئاسي لنظامنا السياسي ضدا على التأويل البرلماني.