مما لا شك فيه أن الترعرع في حضن قادر على فهم متطلبات الحياة المعاصرة سينجب أشخاصا يمكن أن نعول عليهم لتجاوز أزمة الوعي التي وصلنا إليها في الفترة الأخيرة، وسيكون لدينا نخبا مثقفة تتجول في حقول أمطرت سماءها فكرا ووعيا ليصبح الإنسان بذلك قادرا على قيادة ثورة فكرية تغير مسار أمة وجيل صارت عقولها في فروجها ومسلسلة بتقاليد وهمية تخمضها جهل قديم، وبهذا سيتحقق ذاك التغيير المستحيل في عقول الكثير. لا تقدم فكر بدون وعي أدبي، فهذا الأخير موجود فينا بالفطرة، أي أن كل شخص أدبي مند نعومة أظافره، فهو يستطيع أن يكون جملا ويتجاوب بها مع الآخرين، وقادر على قراءة الكتب والقرآن وفهم ما بين السطور، ويمكن أن يتغزل بمحبوبته متى ما التقى بها، وبإمكانه تحليل قضاياه الإجتماعية ومشاكله التي يمر بها بشكل دقيق ومفهوم، والأكثر من هذا أنه أحيانا يستعمل مصطلحات أدبية بامتياز، ولكن تجد الإنسان يتخلي عن أدبيته ليعيش في مستنقعات تخبره أن اعترافه بذلك سيكون عيبا وسيقلل من شأنه، ليبحث عن حلول أخرى تخلصه من فطرته، وهذا صعب، والغريب أن البعض من استسلم وضعف قد اختاره كتخصص، نية منه أنه سيربح من خلاله دريهمات تمكنه من العيش بسلام، فيبقى يحوم حوله ولا يستطيع أن يحلق عاليا بسبب عدوى أصيب بها من لدن أطراف مجتمعية تحلل ما تشاء وكيف تشاء حسب هواها، فيبقى مسكينا في نظر الجميع، يشفقون على حاله أينما سمعوا به، ويسودون الحياة أمامه، ليصدق بذلك خزعبلات يلقنونها له باستمرار، ولا يستطيع التجاوب معها. مند زمن العلوم وازدهارها آنذاك كان الإنسان لا يفكر سوى في كيف يقدم نفسه والبشرية جمعاء، فتجده يلتحم بجميع التخصصات، ويتقن من كل فن طرب، يستطيع تحليل نص أدبي بامتياز وبالمقابل تجده يبحث عن حلول لمعادلة تفاضلية أو ناتج تكامل أو مبرهنة قاعدة ما، فيساعده ذلك في ذاك، وكانت رغبته في التعلم جامحة، لا يستطيع أن يقتصر على شيء معين، فتلقاه ورع في كل ماهو في حاجة له أو يحتاجه المجتمع، وفي الحقيقة أنه إن لم يكن فعل ذلك ما كان ليصل إلينا هذا الزخم من العلوم، فنذكر مثلا راسل فهو أدبي وديني وعلمي، واينشتاين، والخوارزمي، والعداء من العلماء، يتقنون الأدب لأنه فطري ومن الضروري ذلك، ويبحثون في العلوم لينقذوا البشرية من ظلمات الجهل، فلو كان لديهم تفكير محدود مثل أناس هذا الزمن، لم نكن لنكن ربما، فالرغبة في البحث والإبتكار وفهم أسباب مجريات الأمور على كل إنسان الاتصاف بها، فمع الأسف تجد من يوهم نفسه أنه متخصص في الأدب لا يقوى على سرد أفكاره ومناقشتها، وحتى كتابة مقال أدبي تجده يمتنع عن ذلك، والمسؤولية على عاتقه دوما، لا يمكن أن يسل منها، فنحن صرنا في زمن أدب بلا أدباء، بحيث أنه كذلك لا تجدهم ينتجون شيئا غير سفسطائية زائلة، ونقد لا موضوعي للأمور، ويساهم من يدعون التخصص في تراجع الأدب ليصلوا بها إلى درجة منحطة تحت المستوى، وربما إن هذا المشكل لا تعاني سوى المجتمعات العربية الإسلامية المحدودة الرؤيا. حقيقة لا يمكن إنكارها، إن التخصص الأدبي لا يساعد في اقتصاد الدول، ولا يمكن أن تجنى منه أرباحا مادية، لهذا ينظر إليه بحقارة ولا إهتمام، كما لا يجلب سوى البطالة، لهذا تجد أن من لهم المسؤولية يصعب عليهم محاربته علنا، فيلجئون إلى محاربته بالتقليل من شأنه وتعجيز طلبته وحقنهم بمقررات دراسية تساهم في أميتهم أكثر من تقدمهم الفكري، بهذا جليا أن الحاجة الماسة للوطن هي المال، رغم أن الواقع شيء آخر. غياب التفكير يجعلنا نتشبت بالفروع ونترك الأصول، وهذا ما وقع بالضبط، تركنا العلوم واتبعنا الفطرة، واستسلمنا لواقع مرير لازالت معاناته قائمة وتراجع مهول في صفوف الأدمغة البشرية، وسيدفع الثمن غاليا الإنسان، وما يحيط به ككل، إن لم نستدرك في المستقبل ونحضر العقل ونفهم مناهج الأمور.