من بين قضايا الإعجاز العلمي التي يتحدث عنها الناس كثيرا خصوصا في شهر رمضان”الإعجاز العلمي الطبي في تشريع الصوم”؛ يقولون: إن العلم الحديث قد اكتشف أن للصوم فوائد صحية كثيرة، والله سبحانه شرع لنا الصوم منذ أزيد من 1400 سنة من اليوم، بل شرعه سبحانه قبل ذلك بكثير، حيث فرضه على اليهود والنصارى من قبلنا (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، ويقولون: إن في الآيات والأحاديث التي تذكر الصوم إعجاز علمي وطبي، حيث إنه لم يكن في وسع البشر أن يعلموا في ذلك الوقت ما للصوم من فوائد صحية ووقائية كثيرة.
الحقيقة أنه لا يوجد أي إعجاز لا علمي ولا طبي في هذا التشريع، لأسباب هي:
أولا: لا يذكر الإعجازيون عند ذكرهم لهذه القضية أي دليل صحيح من الكتاب أو السنة، لا يذكرون أي دليل قطعي في دلالته، أو حتى ظني في دلالته يفيد ما زعموه، وأما الحديث الشائع المشتهر على ألسن الناس “صوموا تصحوا”، فقد ورد من طرق كلها ضعيفة لا يصح منها شيء[1]، وبالتالي فمن زعم أن الإسلام -أو اليهودية أو النصرانية- قد فرض على المؤمنين الصوم لعلة الاستفادة الصحية والطبية فهو مطالب بالدليل على ذلك، كما أننا نحن مطالبون بعد إيراده بالاعتراف به والخضوع له.
ثانيا: نجد في آية الصوم نفسها تعليلا واضحا لتشريع الصوم، وهي “تحصيل التقوى”، وذلك في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) والحكمة هنا واضحة، وهي تحصيل التقوى والسمو بالروح والابتعاد عن الحياة المادية التي تجعل بين الناس وخالقهم حائلا، وتنسيهم في تزكية وتصفية نفوسهم والرقي بها، كما أنها في الأخير تحول دون نيلهم لكمال التقوى، ولهذا بالذات يُعتبر التعبد والتحنث والاعتكاف في شهر رمضان مرغبا فيه أكثر من أي وقت آخر، وفضائل شهر رمضان في السنة النبوية -خاصةً- كثيرة جدا يعلمها الجميع، ومما يزيد هذا القول وضوحا أن السنة النبوية كما القرآن صرحت بما يندرج تحت نفس الحكمة التي ذكرنا “تحقيق التقوى”، فقد جاء في الحديث المشهور: “يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء” (متفق عليه)، فالصوم هنا يجعل بين المؤمن والفاحشة مسافة والصوم وسيلة للوقوف بعيدا من ارتكاب المعصية، وفي حديث آخر: “الصوم جنة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل إني صائم” (رواه البخاري)، وفي آخر: “كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به” (رواه مسلم)، والصوم من هذه الزاوية يحقق الإخلاص، وكل هذا يندرج ضمن الحكمة الكبرى التي هي تحقيق التقوى.
ثالثا: إذا كانت العلة من وراء الصوم في رمضان هي الفائدة الصحية فما المانع من صيام غيره من الشهور بدلا منه؟ فلو أن شخصا صام في رجب، أو صفر، أو غيرهما من الشهور لنال هذه الفائدة، وبالتالي لم يكن لشهر رمضان خصوصية في هذه الناحية ومزية على الأشهر الأخرى.
رابعا: قد يقول قائل: لماذا تنفي كون العلة هي ما ذكرنا، أو على الأقل أن تكون واحدة من بين العلل الأخرى، إذ كما هو معلوم، قد يكون من وراء الشيء الواحد علل عديدة، فلماذا نفي هذه العلة؟ فنقول: العلة هنا منفية بالشرع نفسه، فكما هو معلوم أن الشرع دائما ما يذكر لنا علل التشريعات ليحثنا على فعلها وممارستها، ولو كان الشرع يقصد لهذه العلة لذكرها، إذ لنا أن نتساءل، لماذا قصد الشرع لهذه العلة ولم ينص عليها مع أنها مهمة وفيها تشجيع للمؤمنين على الصوم وترغيب فيه كما أن فيها قطعا لدابر المشككين فيما يخص الإعجاز العلمي؟ هل علم النبي (ص) هذه العلة ولم يبلغها أمته؟ أم أن الله أخفاها عن النبي كما أخفاها علينا؟ ولماذا يخفيها عنا يا ترى؟
إن أي شخص يفكر بعقله قليلا -حسب ما يبدو- ينبغي أن ينزه الخالق سبحانه عن هذا العبث، وأن يقول بملئ فيه: إن الله سبحانه قد نص على الحكمة من وراء الصوم وهي “تحصيل التقوى” وكفى.
خامسا: وأخيرا لنفرض أن كل هذا محتمل، وأنه من الممكن أن تكون هذه من بين الحكم التي أخفاها الله عنا -ونحن قد قررنا فوق أن هذا غير صحيح-، فأين الإعجاز العلمي والطبي هنا يا ترى؟