إن تجارب الانتقال الديمقراطي التي شهدتها مجموعة من دول العالم خصوصا في دول أمريكا اللاتينية ودول أوروبا الوسطى والشرقية ودول البلطيق خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وإن كانت تختلف في خصوصية تفاصيلها، إلا أنها تحمل الكثير من أوجه التشابه، لا من حيث المسببات ولا من حيث النتائج، وفي هذا الاتجاه، تبدو التجربة السياسية المغربية غير منفردة بذاتها وليس كما يريد أن يسميها البعض “بالاستثناء”.
ينطلق الانتقال الديمقراطي من داخل الإطار المؤسساتي للنظام الحاكم على أساس توافق يجمع هذا الأخير بالمعارضة، و في الغالب من الأحيان ما تكون الأزمة الاقتصادية سببا يدفع الأنظمة الحاكمة إلى مجاراة الأوضاع و تجاوزها بأقل الخسائر للاحتفاظ بوضعها السياسي و مصالحها الاقتصادية، و هو ما حدث في البرازيل بداية السبعينات حيث أدى ارتفاع أسعار البترول إلى ارتفاع نسبة التضخم و تدهور الأوضاع الاجتماعية فوجد النظام العسكري نفسه مجبرا على البحث عن مخرج سياسي تجسد في الأخير في التحالف مع “تينكريدو نيفيس”، و في إسبانيا و بعد اشتداد الأزمة الاقتصادية و بروز الخطر الانفصالي و شيوع شبح الانقلاب العسكري أتى التوافق بين الملكية و الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني الذي أفضى في 1982 إلى انتخاب “فيليبي كونزاليس” رئيسا للحكومة.
و من جانب آخر يمكن القول بأن السياسات الإصلاحية (perestroïka وglasnost) “لميكائيل كورباتشيف” نهاية الثمانينات و انهيار المعسكر الشرقي، أثرت بشكل سلبي على وهج الأحزاب و التنظيمات الشيوعية و الاشتراكية عبر العالم، مما أدى إلى بروز يسار إصلاحي له قابلية التفاوض مع الأنظمة الحاكمة حول ديمقراطية توافقية انتقالية.
و تمر تجارب الانتقال الديمقراطي عبر مرحلتين؛ مرحلة أولى تسمى الديمقراطية المسطرية (démocratie procédurale) تعتمد على مبدأ التناوب و تتمحور حول تنظيم الانتخابات مع فتحها أمام تعددية سياسية، و مرحلة ثانية تسمى التوطيد الديمقراطي (la consolidation démocratique) تتحقق خلالها الديمقراطية الفعلية حيث يتم المرور من نظام توليتاري إلى نظام ديمقراطي تتحدد فيه علاقات متوازنة و منفصلة بين السلط و يشمل الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية كما يكرس حقوق الإنسان في بعدها الكوني.
خلال مرحلة الديمقراطية المسطرية، يخلق هامش حرية التعبير و يظهر وافدون سياسيون جدد أو نخبة سياسية جديدة كما تنشط خلالها وسائل الإعلام بشكل مكثف و الأمثلة في ذلك هانغاريا، بولونيا، الأرجنتين، و بوليفيا، ويتم من خلالها التفاهم على حد أدنى من القواعد تترجم في دساتير شبه ديمقراطية، و يكون العنوان الكبير للغة السياسية في هذه المرحلة، هو تنظيم الانتخابات.
لكن من سلبيات هذه المرحلة أنها لا تفرز تحالفات متجانسة، لان البراغماتية الانتخابية تطغى على القيم الاديولوجية، كما أنها لا تصلح الوضع الاقتصادي هيكليا بل تضع فقط بعض الإصلاحات الظرفية محافظة بذلك على مصالح الاوليغارشية القديمة، و لا تسمح أيضا بالانتقال إلى مرحلة التوطيد الديمقراطي إلا في حالات معينة، كان الدافع من ورائها العامل الخارجي كبلدان أوروبا، التي تحكم فيها هاجس الانضمام إلى المنظومة الأوروبية، عاملا أساسيا في تحقيق الديمقراطية، و الأمثلة في هذا الاتجاه كثيرة هنغاريا، سلوفاكيا، بولونيا، التشيك، استونيا، سلوفينيا أو بعض الحالات القليلة التي استحضر فيها، النظام الحاكم، المثال الإسباني، انفراديا، ضرورة تحقيق الشرط الديمقراطي.
و عودة للتجربة المغربية، لقد شكلت سنة 1996 نقطة التقاء إرادتين، إرادة الملكية، من جهة، المتجلية في تجاوز الأزمة الاقتصادية التي أصبحت تنهك الميزانية العامة و التي كان سببها فشل التقويم الهيكلي الذي تبنته الدولة بداية الثمانينيات، كما أن ضرورة الانفتاح على العالم الغربي و الاندماج في المنظومة الدولية أصبح يفرض الانفتاح على المعارضة الوطنية و إدماجها في ترتيب البيت الداخلي.
أما المعارضة، المتمثلة في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كانت قد استنزفت جراء سنوات الجمر و الرصاص، و مع انتشار المد النيوالليبرالي و التحولات التي شهدها العالم، اختارت الدخول في المفاوضة و صوتت لأول مرة “بنعم” على دستور 1996، هذا ما مهد إلى تشكيل حكومة 1998 يترأسها اشتراكي ديمقراطي.
مرحلة التناوب التوافقي، أتاحت ما أتاحته باقي التجارب في العالم، حيث أصبح لحرية التعبير هامشا أوسع مما كان عليه سابقا، ظهر وافدون جدد في الحقل السياسي (العدالة و التنمية و البام) ، أعطيت إصلاحات اقتصادية، في المجال المالي و مجال الميزانية العامة دون أن يكون لها وقع على الجانب الاجتماعي.
حاليا و بعد مرور 20 سنة من انطلاق الانتقال الديمقراطي، يصبح من المشروع تقييم التجربة و طرح السؤال: إلى أين وصل هذا الانتقال؟
لقد شكلت ثورة الملك و الشعب في 20 غشت 1953 حدثا وطنيا بامتياز و مثل هذا الحدث صلب الالتئام الوطني الذي جمع بين الملكية و بين الحركة الوطنية و جيش التحرير، و لقد أسس هذا التحالف الوطني الإطار المرجعي لمحادثات إيكس ليبان حيث ارتبط استقلال البلاد بعودة الملك محمد الخامس من المنفى في 18 نوفبر 1955.
إلا أن الدولة الوطنية المستقلة سرعان ما ستعيش أولى انتكاساتها نهاية الخمسينات بالاعتقالات التي طالت أعضاء جيش التحرير وإقالة حكومة عبد الله إبراهيم في ماي 1960 لتجهض بذلك أول تجربة انتقالية في المغرب.
و بعد قرابة 40 سنة من الأزمة و الصراع السياسي، سيتم استحضار هذا التحالف الوطني بتشكيل حكومة التناوب التوافقي سنة 1998، لكن هذا التحالف الوطني سيتعرض من جديد لمحاولة إجهاض سنة 2002 بالإخلال بالمنهجية الديمقراطية واختيار وزير أول تقنوقراطي.
إذن بشكل عام، ارتبطت تجربة الانتقال الديمقراطي في المغرب بالانتكاسات، وهي تعيش على وقع التهديد المستمر، و لم تشكل يوما ما مجالا للطمأنة، لاسيما و أن الوضعية السياسية اليوم، بعد 20 سنة من إنطلاق تجربة التناوب التوافقي، لا ترقى لمتطلبات الدولة الحديثة و تفيد أن الانتقال الديمقراطي في المغرب تعثر و توقف في منتصف الطريق، و عناصر هذا التحليل يمكن تلخيصها في ثلاثة نقاط:
أولا؛ دستوري 1996 و 2011، لم يرقيا إلى المطمح الديمقراطي المتعلق بالملكية البرلمانية…
ثانيا؛ تحالفات الحكومات المتتالية غير متجانسة و تحكمت فيها البراغماتية الانتخابية على حساب قطبية سياسية عقلانية و إيديولوجية…
ثالثا؛ غياب اقتصاد وطني تنافسي و عادل يسمح بقيادة استثمارات على المستوى الاجتماعي…
كل هذه المسوغات تشير إلى فشل مرحلة الديمقراطية المسطرية، التي دامت قرابة 20 سنة، وعدم قدرتها على إقرار ديمقراطية سياسية و اقتصادية و اجتماعية، و السبب يتجلى في كون هذه المرحلة، كما أشرنا لذلك في البداية، تفسح المجال أمام وافدين جدد (العدالة و التنمية و البام)، و هؤلاء الوافدين الجدد ولدوا في ساحة سياسية يجهلون أنها جديدة، و غير مستعدين للمشاركة في استكمال تطويرها لأنهم أول المستفيدين، بيولوجيا، من الديمقراطية المسطرية.
هذا الامتنان الوجودي الذي يربط الوافدون الجدد بمرحلة الديمقراطية المسطرية يلتقي مع مصالح النظام القديم الذي يحرص، كلما أتاحت الفرص لذلك، على تعطيل الانتقال الديمقراطي، حيث يصيب تحالف المصالح العمق الديمقراطي للتحالف الوطني الذي أسس لتجربة الانتقال الديمقراطي.
أمام هذه الوضعية المحرجة، لا يبدو الأمر بالبساطة التي يعتقدها البعض، فإنسداد الأفق الديمقراطي لا يمكن أن يسهل اتخاذ القرار السياسي، لأن رفض هذا الواقع يعادله من الناحية السياسية طمس براديغم الدولة الوطنية الذي تأسس فجر الإستقلال، و إعمال قراءة نقدية للمرحلة التاريخية الممتدة من ثورة الملك و الشعب إلى حدود إعلان ” سيل سان كلو” (déclaration de selle saint cloud).
أما القبول و التعامل و التبيئة مع هذا الوضع يقتضي تنظيم مؤتمر استثنائي سياسي يتم فيه تحيين و تحديد آليات إستراتيجية النضال الديمقراطي وفق إكراهات و تحديات العهد الجديد.
لكن الأكيد هو أن تحالفات الاتحاد الاشتراكي المستقبلية مبنية على المسألة الديمقراطية، إلى أين يسير هذا الوضع؟ و ما هي القرارات الصحيحة التي يمكن اتخاذها؟ أسئلة تبقى مرتبطة و مطروحة على فاعلين أساسين صنعا تاريخ المغرب المعاصر، لأن الذاكرة السياسية للمغاربة تبقى حية و لا يمكن التغاضي عنها بتزييف النخب دون تحديث هياكل الدولة بناء على أسس ديمقراطية.