المطلب الثاني: نُقول أهل العلم الإجماع على كروية الأرض والكلام حولها:
أولا: أبو الحسين بن أحمد جعفر بن المنادي (256 – 336هـ):
ساق حكايته للإجماع كلٌّ من ابنِ تيمية وابن الجوزي: “قال: -أي: أبو الحسين بعد نقله الإجماع على أن السماء على مثال الكرة- وكذلك أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة. قال: ويدل عليه أن الشمس والقمر والكواكب لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد، بل على المشرق قبل المغرب. قال: فكرة الأرض مثبتة في وسط كرة السماء، كالنقطة في الدائرة.”([1]).
ثانيا: ابن حزم الأندلسي (384 – 456هـ):
قال: “مطلب بيان كروية الأرض: وهذا حين نأخذ إن شاء الله تعالى في ذكر بعض ما اعترضوا به، وذلك أنهم قالوا: إن البراهين قد صحت بأن الأرض كروية، والعامة تقول غير ذلك، وجوابنا وبالله تعالى التوفيق: أن أحداً من أئمة المسلمين -المستحقين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم- لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يحفظ لأحد منهم في دفعه كلمة، بل البراهين من الكتاب والسنة قد جاءت بتكويرها”([2]).
ثالثا: ابن تيمية الحراني (661 – 728هـ):
قال: “اعلم أن الأرض قد اتفقوا على أنها كروية الشكل”([3]). وقد سبق معنا نقله للإجماع عن أبي الحسين بن المنادي، وقد ساقه مستدلا به على كروية الأرض.
وقال في معرض جوابه عن سؤال حول ما إذا كانت السماء والأرض جسمين كرويين أم لا؟ قال: “السماوات مستديرة عند علماء المسلمين، وقد حكى إجماع المسلمين على ذلك غير واحد من العلماء أئمة الإسلام: مثل أبي الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي أحد الأعيان الكبار من الطبقة الثانية من أصحاب الإمام أحمد وله نحو أربعمائة مصنف، وحكى الإجماع على ذلك الإمام أبو محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي، وروى العلماء ذلك بالأسانيد المعروفة عن الصحابة والتابعين، وذكروا ذلك من كتاب الله وسنة رسوله، وبسطوا القول في ذلك بالدلائل السمعية، وإن كان قد أقيم على ذلك أيضا دلائل حسابية، ولا أعلم في علماء المسلمين المعروفين من أنكر ذلك، إلا فرقة يسيرة من أهل الجدل لما ناظروا المنجمين قالوا على سبيل التجويز: يجوز أن تكون مربعة أو مسدسة أو غير ذلك، ولم ينفوا أن تكون مستديرة، لكن جوزوا ضد ذلك، وما علمت من قال إنها غير مستديرة -وجزم بذلك- إلا من لا يؤبه له من الجهال“([4]).
ونلاحظ على هذه النقول أمورا نتناولها تحليلا ونقدا وتحققا من الصحة، وهي كالآتي:
1- عبارة ابن المنادي كما ذكره عنه كل من ابن تيمية وابن الجوزي “أجمعوا على أن الأرض … مثل الكرة“، وعبارة ابن تيمية “الأرض قد اتفقوا على أنها كروية الشكل“ فيهما إشارة إلى أن المسألة مجمع عليها. وهاتان العبارتان مما يستخدمه الفريق القائل بكروية الأرض كسلاح لكسر حجج وبراهين الفريق القائل بتسطيحها كما مر ذكره، ذلك أن الإجماع فيه قوة حجة كما هو معلوم عند علماء الإسلام.
2- بناء على كون كثير من حكايات الإجماع الرائجة على ألسنة كثير من الناس والتي يذكرها أهل العلم الشرعي في كتبهم لا تصح ولا يسلم لها، ويُتطلب التثبت منها، مثل كثير من المسائل التي ذكرها ابن حزم في “مراتب الإجماع” وانتقدها عليه ابن تيمية في “نقد مراتب الإجماع”، ومثل العديد من الإجماعات التي نقلها ابن عبد البر في باب العبادات وتعقبها بالنقد د. عبد الله بن مبارك البوصي في كتابه “إجماعات ابن عبد البر في العبادات”، وكثير من الأعمال النقدية الأخرى لمسائل الإجماع([5])، وكما قال أبو ثور: “إن الذي يُذكر من الإجماع معناه أنا لا نعلم منازعا. ثم ما يعرف من ادعى الإجماع في هذه الأمور إلا وقد وُجد في بعض ما نذكره من الإجماعات نزاعا لم يطلع عليه”([6])، فإنه لا ينبغي لنا التسليم للقول بالإجماع في هذه القضية -ولا غيرها- من القضايا إلا بعد التحقق من صحة ذلك باستقراء أقوال العلماء في العصور الأولى، فبعد أن يثبت ويستفيض عندنا أن عددا كبيرا من العلماء قد قال بهذا القول، ووجدنا مع ذلك مخالفا واحدا، حينئذ ينتقض القول بالإجماع، ونكون قد كُفينا عناء البحث والاستقراء لأقوال العلماء في العصور المتأخرة، فإن ذكرنا أقوالا أخرى كان ذلك على سبيل الاستئناس والزيادة في التحقيق، قال الغزالي: “إذا خالف واحد من الأمة أو اثنان لم ينعقد الإجماع دونه، فلو مات لم تصر المسألة إجماعا، خلافا لبعضهم. ودليلنا: أن المحَرَّم مخالفة الأمة كافة”([7]). ولا يجوز كما تقدم وأشرنا إليه في مباحث “الإجماع” أن يدعي أحد في مسألة ما إجماعا بعد أن ثبت الخلاف فيها.
3- معلوم أن الدعوى المجردة دون إثبات وتدليل غير كافية، بل غير معتبرة من أصلها حتى يقام عليها الدليل، فكذلك دعوى الإجماع على كروية الأرض، هي دعوى مجردة ينبغي على كل من زعمها أن يقيم عليها الدليل والبينة وإلا فهي لاغية، وهكذا يُتعامل علميا مع كل دعوى كيفما كان نوعها، ففي علم المنطق أن صاحب الدعوى يمكن أن يُكتفى في الرد عليه بمطالبته بإقامة البينة على ما ادعاه إذ هي دعوى تتطلب برهانا يصححها. وحسب علمي، لا برهان يصحح دعوى الإجماع على كروية الأرض، بل هذا النقل للإجماع فيه تكلف، وكان أولى بمن نقله من أهل العلم الاقتصار على الاستدلال من الكتاب والسنة بدل ادعاء الإجماع، لأن إثبات هذا الإجماع مما هو متعذر وصعب جدا، وقد ذكرنا عن ابن القيم قوله: “إنَّ علم المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة أسهل عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحكم، وهذا إن لم يكن متعذرا فهو أصعب شيء إلا فيما هو من لوازم الإسلام”([8]).
4- تقدم أن الإجماع قطعيٌّ وظنيٌّ، وتقدم ذكر أن الحجة إنما هي في الإجماع القطعي المُتيقن المنضبط، أما القطعي فهو ما عُلم من الدين بالضرورة كوجوب الشهادتين، والصلوات الخمس، وصيام رمضان، وغيرها. ومنه -أي القطعي- “ما شهده جميع الصحابة رضي الله عنهم من فعل رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، أو تُيُقِّن أنه عرفه كل من غاب عنه عليه السلام منهم، كفعله في خيبر إذ أعطاها يهود بنصف ما يخرج منها”([9]) كما قال ابن حزم. وأما الظني فهو ما لا يُقطع بصحة وقوعه، وهو الذي لا يُعلم إلا بالتتبع والاستقراء، وقد تقدم أن مجرد الاختلاف في حجيته يستلزم عدمها، وأن ضبطه ورصده عسر بسبب انتشار الأمة على حد تعبير ابن تيمية. وبالنظر إلى ما أسموه إجماعا حول كروية الأرض، نلاحظ أنه لا يمكن القطع به نهائيا لأنه ليس مما يُعلم من الدين بالضرورة، ولأننا لا نعلم أنه استفاض عن الصحابة أو -حتى التابعين- حتى تُيُقِّن علمه لديهم، فهو بهذا التقرير ليس إجماعا قطعيا مُتَيَقَّنًا، وبالتالي فهو ليس حجة. وكذلك هو ليس إجماعا ظنيا، لأن تتبع وجمع أقوال الصحابة أو -حتى التابعين- في هذه المسألة عسر وغير ممكن لنا. وقد تقدم ذكرنا أن الإجماع الصحيح لا بد له من مستند من الكتاب أو السنة، ولا مستند قطعي في هذه المسألة، بل هناك كثير من النصوص القرآنية والسنية تعضد رأي المُسَطِّحين كما سيأتي معنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ابن الجوزي، الناشر: دار الكتب العلمية، ج: 1، ص: 183. وانظر: المنتظم للمصنف نفسه، ج: 2، ص: 173. ومجموعة فتاوى ابن تيمية، الناشر: وزارة الأوقاف السعودية، ج:25، ص: 195.
[2] الفصل في الملل والأهواء والنحل، الناشر: دار الجيل بيروت، ج:2، ص: 241.
[3] مجموعة فتاوى ابن تيمية، ج: 5، ص: 150.
[4] مجموعة فتاوى ابن تيمية، ج:6، ص: 586 – 587.
[5] انظر: http://www.alukah.net/web/abdullah-ibn-mubarak/0/88343/.
[6] الإخنائية أو الرد على الإخنائي لابن تيمية، الناشر:دار الخراز، ص: 458 – 459.
[7] المستصفى للغزالي، ج: 2، ص: 496.
[8] إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية، الناشر:دار ابن الجوزي، ج: 3، ص: 557 – 558 – 559.
[9] الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، ج: 4، ص: 149 – 150.