ماذا لو في عام من الأعوام قررت الدولة تخصيص ميزانية المهرجانات الاحتفالية و ميزانية تجديد سلاح الجيش من أجل مشروع وطني حازم لتعقيم مراكز امتحانات الباكلوريا من كل وسائل الغش ؟ مؤكد أن الجواب في هذه القصة الافتراضية سينفجر في وجهنا بجلاء :
” …كان عاما استثنائيا في كل ثانويات البلاد، يوم الامتحان الوطني للباكالوريا نزلت الدولة بكل ثقلها القانوني و اللوجستيكي من أجل القضاء على ظاهرة الغش ، عند باب كل مركز امتحان حارس مهمته افتحاص كل تلميذ بآلة كشف ليجرده من أية وسيلة اتصال ، قبل انطلاق الامتحان خصصت ساعة بكاملها للتأكد من خلو القاعات من الهواتف النقالة ، و مع بداية الامتحان صار كل أستاذ مراقب لا يكلف نفسه إلا تسجيل رقم أي تلميذ يحاول الغش في محضر الإجراء دون إخباره أو الدخول معه في نقاشات كما ينص على ذلك القانون الجديد ، و هكذا في اليوم الأول فقط تم تسجيل المئات و المئات من حالات الغش ، جل التلاميذ أصيبوا بالصدمة من جراء ما حصل ، لا أحد يكلمهم أو يناقشهم فقط أعين تراقب و تسجل ، لم يجدوا الأساتذة المراقبين كما ألفوا ، فاليوم أساتذة حقا ويقومون بمهامهم الوطنية بكل هدوء و ثقة في النفس ، لا مجال للاستجداء تبقى و لا مجال إلا للتركيز على الورقة ، بكى من بكى و ندم من ندم و انصرف مستسلما من قرر الاستسلام من غير أي نقاش ..
مرت أيام وصار التلاميذ على موعد مع إعلان نتائج الامتحان ، انحبست الأنفاس و ترقب الجميع النتيجة الكارثية ، و فعلا نتيجة كارثية كارثية تلك التي ظهرت ، كرر الآلاف و الآلاف بل كررت بعض الأقسام بكاملها ، و قليل قليل من نجا و أدرك النجاح ، عمت الكارثة إلى أن أصبح الرسوب تلك السنة أمرا عاديا ما دام الأمر يتعلق بجائحة قانونية وطنية.
لكن الكارثة الحقيقية هي التي ستحصل مع بداية العام الدراسي الموالي ، من كان يتباهى بتدبير خطط القضاء على الغش أصبح في ورطة تدبيرية كبرى ، فهناك أقسام في جل ربوع الوطن قد كررت بكاملها ، و الحجرات الدراسية غير متوفرة و لا يمكن بناؤها في ظرف شهر أو شهرين ، كما أن عدد الأساتذة الجدد لا يكفي لكل هذه الأقسام الإضافية غير المتوقعة ، خرج التلاميذ و الآباء في مظاهرات من أجل المطالبة بحل المشكل و عمت اضطرابات أمنية غير مسبوقة كل ربوع البلاد …”
نعم إنها النتيجة المنطقية المتوقعة لأية محاربة حقيقية للغش ، فلماذا سنضع أنفسنا أمام هذا الوضع الحرج ؟ يكفي فقط أن نحارب الغش قليلا، ونزجر تلميذا هنا و تلميذا هناك، و نترك في المقابل الأساتذة يخافون على أنفسهم و يفهمون أنفسهم حتى لا يستيقظ فيهم الضمير المهني و يخلقوا مشاكل لمؤسساتنا التعليمية و للسير العادي للدراسة . نعم هي واقعية وطنية حتمية لا بد منها و نحن لها يا وزارة التعليم متفهمون ، فقط كونوا صرحاء و اعترفوا بأن للغش فوائده التي لا يمكن أن تنكر، فوائد تبدو فوائد إلا أنها تخرب مع الوقت كل عيون البلد ، اعترفوا بأن من بين وصاياكم ضرورة إعمال الحكمة في المراقبة ، و المقصود بها بالطبع في منظوركم هو التساهل مع الغش أحيانا كثيرة و زجره في بعض الأحيان القليلة الممكنة ، و لعل جل أساتذتكم يعرفون بأن الأستاذ الذي يباشر عملية الحراسة بكل صدق و يحرر تقارير غش كثيرة غالبا ما يتم إعفائه على الفور و إحالته على دكة الاحتياط طيلة أيام الامتحان ، اعترفوا بأنكم مضطرون أمنيا وماليا إلى الهش على الغش عوض محاولة تصفيته بشكل كامل، اعترفوا أنه من بين أوامركم المبطنة أن يكتب الأساتذة خلال امتحانات الشهادة الابتدائية الأجوبة للتلاميذ على السبورة حتى لا يكرروا العام و يخلق ذلك مشكلة في البنيات و الموارد البشرية ، اعترفوا أن الأساتذة لو قرروا عاما تنفيذ إضراب وطني عن طريق التطبيق الحرفي للقانون بإعطاء كل تلميذ ما يستحق دون زيادة مع تشديد الحراسة أثناء الامتحانات بمختلف الأسلاك لوقعت كارثة وطنية بكل المقاييس …
اعترفوا إذن بكل هذا و ذاك و تعالوا نبحث جميعا عن حلول فلغة الانتقاد و الاتهام بالطبع قد سئمناها و هي وحدها لا تجدي في بناء وطن الغد ، صحيح أن المحاربة الحقيقية للغش قد تضعنا أمام نتائج خطيرة و أمام حرج بالغ في علاقتنا بالمؤسسات الدولية ، إلا أنه مع ذلك يمكن لنا أن نبتكر حلولا جرئية تعلي من شأن دبلوم قيم النزاهة و المسؤولية أكثر مما تعلي من شأن دبلوم المعارف العلمية المحصل عليه بمختلف أنواع الغش و تقنياته ، ليكن الدبلوم الذي نراهن عليه هو الانتصار للأخلاق أولا ، ففي ماذا سيفيد علم أبنائنا إن كانت أيام الامتحان بالنسبة لهم مدرسة كبيرة للغش ، يرافقهم فيروسه أينما حلو و ارتحلوا ، إذ أن ذلك التلميذ الذي ذاق الغش يصير حاملا لوبائه طوال حياته معتمدا عليه دائما في مهنته و في كل ما يوكل إليه من مسؤوليات، صغيرة كانت أم كبيرة ، فعن أي فائدة لتعليم المعرفة يمكن أن نتحدث إن لم نعلم الأبناء أولا أخلاق الانضباط و المسؤولية باعتبارها صمام الأمان الذي تراهن عليه كل القطاعات الإنتاجية المباشرة أو غير المباشرة ؟
ببساطة عوض التساهل مع سلوكيات الغش يمكن رصد نقط دعم إضافية خاصة بما يمكن تسميته ب”التنظيم الأخلاقي و الفني” ، وذلك لجميع التلاميذ على حد سواء ثم وضعهم أمام امتحان حقيقي معقم محروس بكاميرات لا تفلت صغيرة أو كبيرة ، مع إعطاء كل الصلاحيات بالطبع للأساتذة للإبلاغ عن حالات الغش دون إيقاف التلميذ الغاش أو الدخول معه في نقاشات مادام القانون واضحا ولا يحتاج منهم أن يلعبوا دور الواعظ أو دور الشرطي يوم الامتحان ، هذا مع ضرورة مرافقة كل هذه الإجراءات باعتماد مواضيع امتحانات جد سهلة تراعي مرحلة الانتقال الفجائي من مدرسة الغش إلا مدرسة اللاغش ، و لنعلم جيدا في هذا الإطار أن بكالوريا ضعيفة نظيفة خير لنا من باكالوريا قوية ظاهرا و لكنها ملوثة بسموم قيم الغش التي تأتي على كل محاولة مجتمعية للتقدم إلى مصاف الدول المتطورة . كما أن اعتماد الوزارة الوصية لمصوغات تكوين عن بعد خاصة بالمترشحين الأحرار من شأنه أن يخفف الضغط على بنيات المدرسة العمومية التي لا يمكن أن تبقى مكتظة بجاحفل المكررين لسنوات ، و الذين يحولون الأقسام إلى يوم حشر كبير يختفي فيه صوت العلم و يرتفع فيه صوت الفوضى و عدم المسؤولية .
وإن الحزم الأمني الذي نطلبه رغم كل ما قد يثيره من خوف في نفوس تلاميذنا الأعزاء إلا أنه يعيد للامتحان هيبته و قيمته ووقاره ، كما أن هذا الحزم الذي لا يباشر إلا في ثلاثة أيام امتحان يصير وقودا فعالا يغذي كل السنوات الدراسية المقبلة بقيم الجد و المثابرة و الاعتماد على النفس ، لأن جميع التلاميذ لما سيكونون متأكدين من استحالة الغش سيفتحون على طول السنة دفاترهم و كتبهم بعدما كانت الغالبية منهم تردد في تراخ و استهثار شعارتها الكسولة : لنلعب إلى يوم الامتحان و حينها البركة في الحروز و الهواتف النقالة ، و ليذهب شرح الأستاذ و مقرر الوزارة إلى سلة المهملات “.
هو يوم الامتحان إذن حلقة حساسة و مصيرية يتوجب تجنيد كل طاقات الدولة من أجل ضمان سلامته و نقائه ، فإن صلح صلحت كل السنة الدراسية و إن فسد فسد كل العام الدراسي و سادت الوسط المدرسي قيم الانحلال بشتى صنوفه و أنواعه . هذا دون أن ننسى بطبيعة الحال ضرورة التركيز على المداخل الأخرى لإصلاح التعليم الذي يعتبر إصلاحه إصلاحا حقيقا فوزا حضاريا للبلد و ثورة هادئة خضراء بواسطتها يمكن لأحفادنا العيش في عزة و تقدم و رخاء .