تحكي الحكاية الواقعية أن أستاذا للغة العربية زاره المفتش ووجده قد منح لتلميذ 19 في مكون الإنشاء ، فاستفسره بإلحاح عن السبب ، ورد عليه قائلا :
” لقد كنت أمنح لتلاميذي المتفوقين في أحسن الحالات 14 ، لكني عدلت عن هذا التشدد الآن بعد أن سمعت يوما من بعيد أحد تلاميذي المتفوقين يشتكي لصديقه قائلا :” ذلك الأستاذ البخيل تعبت بملء الورقة له بأحسن الأفكار و أرقى الأساليب لكنه في الأخير لم يضع لي إلا 14 ، تبا له و تبا للعربية و تبا لكل المواد الأدبية ، الأفضل أن أجتهد في الرياضيات و الفزياء ، إن عملت فيها أكثر يمكن لي أن أحصد أكثر ، أما الإجتهاد في مواد كهذه ليس إلا مضيعة للوقت، هو عذاب بلا فائدة و كأنك تذوب أطنان من الثلج لتحصل فقط على قطرة ماء واحدة ، الأفضل لي أن أجتهد في المواد العلمية فأستاذتها يمكن لي أن” أتحاسب معهم” و أراجع معهم ورقة الامتحان سؤالا بسؤال إلى أن يصححوا أخطائهم و أنتزع منهم نقطة عشرين ، هم في كل الأحوال رغم قساوتهم يظلون أحسن بكثير من هذا الأستاذ الشحيح الذي يتملص بابتسامة عريضة و لا أجد معه أي مجالا للحوار ، فأعلى نقطة هي 14 و لا أحد يمكن أن يسأله أين ذهبت ست نقط التي بقيت تفصلنا عن معدل التفوق الأقصى-20- ، لا أحد يمكن أن يسأله بالطبع عما ينبغي عمله من أجل الحصول عليه ، ما عليك إلا الاستسلام للسقف الحديدي المجحف الذي لا يمكن أن تتجاوزه مهما فعلت . بل ما عليك يا صديقي إلا أن تجتهد في المواد العلمية و توفر عليك تفلسف الآداب الذي لا يجر عليك إلا العذاب …
نعم إنه حوار منطقي سيدي المفتش ، إننا نمارس ظلما بحق التلاميذ المتفوقين ، فإذا كانت طبيعة المادة نسبية فما ذنب التلاميذ في ذلك ؟ صحيح أن الحقيقة الأدبية أو الفلسفية لا تبلغ حد الكمال ، لكن ما المشكل إذا منحنا التلميذ المتفوق عشرين على عشرين إن بلغ الحد الأقصى لمهارات التحليل الجيد الممكن بلوغها من طرف ذات مفكرة في مثل سنه . ثم أنه حتى إن كان لا بد من اعتماد نقطة 14 كنقطة تفوق قصوى لماذا لا نجعل التنقيط 14 على 14 ليبقى كل من يخاف حصول التلميذ على نقطة 19 في كامل راحته ؟؟”
هذا باختصار ظلم ممنهج تستنكره أطوار الحكاية إذ نجد الكثير من الأساتذة يمارسونه من غير أن يشعروا أو يتنبهوا ، هو ظلم وإن لم تكن هناك قوانين تنص صراحة على أن أعلى نقطة يمكن الحصول عليها في العربية أو الفلسفة هي 14 أو 15 إلا أن الكثير من الأساتذة متشبعون بهذه الفكرة من منطلقات عدة ، هناك من يقول أن هذا السقف معقول لأن المادة نسبية و لا يمكن للتلميذ الحصول فيها على نقط تفوق من قبيل 18 أو 19 ، و هناك أكثر من ذلك من يصرخ في وجهك إن ناقشته في الأمر قائلا : إن منحت للتلميذ 19 فما علي إلا أن أنزع وزرتي و أسلمها له ليأخذ مكاني و يقدم الدروس بدلي ، والحالة هذه لا تعدو بالطبع إلا أن تكون عنادا مرضيا مقززا إذ يصير الأستاذ مقارنا نفسه بالتلميذ ، ناسيا أن الأستاذ يبقى أستاذا و التلميذ يبقى تلميذا و لا مجال للتنافس أو المقارنة بينهما في سياق العلاقة التربوية ، ناسيا أيضا أنه لو كان أستاذا للرياضيات لأفحمه تلميذ متفوق في يوم من الأيام محصلا عشرين على عشرين مهما تفنن في البحث في سلسلات الامتحانات الصعبة ليضع أسئلة تعجيزية تقيه من إمكانية تحطم ما يسميه هيبته و هيبة فروضه ، بل الأنكى و الأمر من كل هذا أنك تجد بعضهم يتفاخر مرددا : “الأحسن الأحسن في تلاميذي لا يتجاوز عندي 14” ، ظانا بذلك أن ما يفعله إنجاز تاريخي و انتصارعلمي.
إن نسبية المواد الأدبية تعبد المجال للأسف لبعض الأساتذة لممارسة كثير من الشطط بخلفية مرضية أو غير مرضية ، هناك مثلا من لا يروقه التحليل المقالي للتلميذ من منظوره الذاتي الخاص فيحرمه من نقط التفوق ، و هناك فقط من يخجل أو يخاف من تكسير القاعدة بمنحه نقطة مرتفعة رغم يقينه بأن التلميذ قدم أقصى ما يمكن تقديمه ، و هناك من يعيد عن قناعة ممارسة ما مورس عليه من إجحاف لما كان تلميذا ، لتجده غير مستعد منح نقط تفوق أكثر مما كان يحصل عليه في أحسن حالات تفوقه . بل الأخطر بالمقابل أن هناك من تتسلل إليه الغيرة إذ يتذكر مستواه الضعيف بالمقارنة مع التلميذ المتفوق لما كان في نفس سنه ، فتجده يصرف شعوره هذا بطرق تقويم جد مجحفة .
هي نسبية مواد إذن لا أقل و لا أكثر مازلت تتسبب في ضعف نتائج متفوقي الباكلوريا الأدبية بالمقارنة مع نتائج متفوقي الباكلوريا العلمية الذين يحظون وحدهم كل سنة بالاحتفاء الإعلامي و الجماهيري ، مع العلم أنه لا يمكن أن نحكم أبدا بتفوق متسابق يركب سيارة الفيراري على آخر يركب فقط سيارة عادية و سرعتها الأقصى لا تتجاوز في أحسن أحسن حالاتها 15 أو 16 .
صحيح أنه في الآونة الأخيرة بدأنا نسجل حالات حصول تلاميذ أدبيين متفوقين على نقط تفوق تضاهي عشرين في بعض المواد ، و صحيح أن معايير التنقيط التي صارت تعتمدها الوزارة الوصية أصبحت أكثر علمية بشكل يروم ألا يتدخل مزاج الأستاذ كثيرا في التأثير على النقطة المستحقة بفارق يتجاوز هامش نقطتين ، إلا أنه مع ذلك مع تزال فلسفة تقويم المواد الأدبية المحتكمة لنقط التفوق الكلاسكية ك 14 أو 15 مستبدة بعقول الكثير من الأساتذة سواء خلال تصحيحهم لفروض المراقبة المستمرة أو خلال تصحيحهم للامتحانات الإشهادية الرسمية ، مما يضعنا أمام حالة مستمرة من عدم تكافئ الفرص في التسابق إلى منصة التتويج الوطني بين متفوقي الشعبة الأدبية و متفوقي الشعبة العلمية، بل يمكن القول أن المتفوقين الأدبيين صار لديهم اليقين المحبط بأنهم خارجون من دائرة منافسة كهذه بحكم وعيهم بالأفق المحدود للمردود رغم كل ما قد يبذلونه من جهود و جهود .
لسنا نتحدث هنا لنثير مسألة أولوية شعبة العلوم أو شعبة الآداب ، فتلك مسألة يطول فيها الحديث ، و لكن نرى أنه لا بد من التأكيد على ضرورة إعادة النظر بشكل رسمي في فلسفة تقويم المواد الأدبية ، كما أنه لا بد من التأكيد على ضرورة إنصاف متفوقي الشعبة الأدبية و الاحتفاء بهم رسميا و إعلاميا و جماهيريا على اعتبار أن معايير تقويمهم ما تزال غير سليمة ، و على اعتبار أن الوطن محتاج لكفاءات تصنع الوعي و وتزرع القيم الإنسانية الإيجابية بشكل يعود في الأخير بالنفع على الاقتصاد و على دورة الحياة المادية ، فكما يقول المثل الفرنسي : “العلم بدون وعي و أخلاق ليس إلا تدميرا للذات ” ، إذ يبقى ضروريا مهما احتجنا العلوم أن نتبنى نظرة متوازنة تراعي حاجات السوق كما تراعي حاجات الروح التي تعمل في هذه السوق ، و ليس لنا إلا أن نهتم بصمام أمان المجتمع بإنصاف صناع الوعي و الحكمة ، وذلك من أجل بلد أفضل للجميع .
رائع