قراءة في قصيدة” حين يأخذني الزمان” للشاعر المغربي علال الجعدوني
معلوم أن الإبداع الجميل يولد عادة من رحم المعاناة، ومكابدات الذات المبدعة لمرراة الواقع، والمواجع التي يكرهها عليها الدهر.
والشاعر لا يشذ عن هذا الأمر، إنه ينصت لنبض المجتمع، ويتنبأ بالآتي، فهو كلما قاسى مواجع الحياة، وكابد هموم المجتمع والأمة، يفيض قلمه بالإبداع الخلاق والشعر الجميل معبرا عن أحواله، ومن خلاله ذلك يؤرخ للمجتمع وما يشهده من تحولات وأحداث وهموم تنعكس كلها في تجربته الشعرية التي من خلالها يبني مواقفه ورؤاه لكل القضايا.
والشاعر المغربي الأصيل علال الجعدوني في قصيدته” حين يأخذني الزمان” يعبر عن الآلام والأوجاع والوحدة وألوان البؤس التي تتجرعها الذات الشاعرة نظرا لما عاشته من ظروف قاسية كان للزمان فيها سلطة أكرهت الذات الشاعرة على المعاناة، يقول الشاعر في مطلع القصيدة( ديوان: حين يأخذني الزمان، مطبعة بلال، فاس، 2019، ص.ص. 15-22):
وحدي أبكي على زماني
أتجرع الألم …
أبوح بخواطر لونتها
بألوان البؤس و الوجع
مكرها …
وحدي أبكي على زماني
إن مرارة الوجع التي كابدها الشاعر جعلت الذات ترتمي في أحضان أحلام خضراء، كي تنفلت للحظات من عالم الواقع المزري -الذي يحبط النفس ويكرس صنوف الوجع والقهر- وتعيش عالمها الخاص الذي يشيده الشاعر وفق رؤيته للعالم ليسمو عن الواقع لحظة الكتابة، ولحظة الوحدة القاسية حيث لا أحد يفهم لغته، ولا أحد يواسيه ويزيح عنه غمام الحزن الذي يلف ذاته ويضايقها، ويجثم عليها، يقول الشاعر:
منذ أن حولتني الظروف
إلى حلم يرقص في شوارع الحياة
على وهم مؤلم
سكنني من بعيد
لم يتحقق …
…. .
وحدي أعيش على إيقاع الوجع
أكتب شعرا
يصعد من أعماقي
يردد صدى قلبي
على نبض العبرات
الجارية على خدي
ولا من يفهمني
و يواسيني
أو يمسح ملوحة دمعي
ورعشات حزينة تلفني
…. .
يا له من زمان … حزينة أوتاره
متقلبة …
عبثت بي في كل لحظات العمر بلا رأفة
إلى أن شحبت روحي
وصرت يتيما
أتمرغ في شجني
أبكي أيام زماني الضائع
خلف الأبواب …
أناجي رب السماء في خشوع
بهمس رقيق الحرف
وغيمة من دموع
تنسكب من مقلتي عيوني
وأنا أحترق من شدة أوجاعي
هكذا فالشاعر يحترق وجعا، ويتوجه متضرعا لرب السماء، فيمعن إمعانا في توظيف المعجم الدال على الوحدة والغربة والمعاناة وقساوة الحياة وما يسودها من نفاق ومكر مجتمعي فظيع يفسد صفاء العيش، ويقتل لذة الحياة ومتعتها، مما جعل الشاعر منذ عتبة العنوان وفي كل مقاطع القصيدة يوجه سهامه للزمان الذي يجري بما لا تشتهي سفنه، ومما يؤكد سيطرة هذا المعجم نجد: كضرير يتذوق جمال الألوان بلا بصر- ما أضيق دروب الحياة! – وحيدا – معلقا – الغربة- وحدة – الغياب- آه يا لخسارتي – نيران الغضب- ما أبشع الزمن!- التمويه – بألوان مزيفة- همومي- يرميني الزمان – الاحتضار – هائما- أحزان- الوداع- سئمت العيش – الضحكة الصفراء – تقتل حريتك- تسلبك أحلامك – كم هي ثقيلة هذه الحياة .
فالشاعر وظف معجما مشحونا بنزعة تشاؤمية حزينة عبر من خلاله على موقفه من الحياة في ظل مجتمع عرف تحولات وتغيرات جذرية بفعل الحداثة والتكنولوجيا التي اجتثت كثيرا من القيم الإنسانية والاجتماعية ( التزاور- المواساة- التعاون- الاهتمام والاحساس بالآخر والسؤال عنه- المحبة- الصدق – التعايش- التراحم ..) والتي كانت تشكل كنزا ثمينا في المجتمع المغربي، كنزا أسهم لقرون بشكل كبير في تماسك الأسرة والمجتمع، وكان يضمن التحامه وصفاءه وطهارته من النفاق الذي أضحى عنوان التغيرات التي همت هذا المجتمع بدءا من مطلع الألفية الثالثة إلى الآن.
إن الشاعر علال الجعدوني قد عاش القيم المغربية الإنسانية الأصيلة التي كانت تؤطر المجتمع المغربي جيلا بعد جيل، ويتلقاها الفرد بأسرته أولا، وبالحي والمسجد ثانيا، ومن المحيط الاجتماعي ككل ثالثا، كما عاش/ ويعيش الشاعر أيضا هذه التحولات الاجتماعية التي جعلته وحيدا يعاني ألم الغربة بوطنه وداخل أسرته ،مما جعله يحن إلى الماضي الذي يمثل عنده الحياة العذبة الجميلة المطمئنة، فبلور في هذه القصيدة رؤية حزينة جعلته يبكي على هذا الحاضر المقيت ويرى فيه التراجع والخسران لا غير، كما جعلته يتوجس المستقبل المجهول. يقول الشاعر:
كم هي ثقيلة هذه الحياة ؟
ملونة بكلمات تذبل وتموت
كل لحظة .
تسلبك حريتك
تلونك بألوان مزيفة
تقتل أحلامك بلا شفقة
فتضحى …
مجرد ذكرى بلا رائحة!
إن حضور صوت الأنا بقوة في كل مقاطع النص لدليل على تصاعد أنينها المستمر من جراء ما تتحمله من أوجاع، وما حمله الدهر إياها من مآسي واغتراب بين الأقارب والأحباب، فاستشعرت ثقل الحياة الذابلة المزيفة المقرفة، حياة مفروضة على أنا الشاعر تئد الأحلام، وتنزع العبير من الذكرى، فتصير الحياة كلها مسودة بلا طعم ولا قيمة في نظر الشاعر.