توفي الفيلسوف والكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو، مساء الجمعة 19 فبراير/ شباط، في منزله في ميلانو، عن 84 عاماً، بسبب مرض السرطان، وفق ما أكّدت عائلته لصحيفة “لا ريبوبليكا” الإيطالية.
نقلت وكالة الأنباء الإيطالية (إنسا) عن رئيس الوزراء ماتيو رينتسي أنّ إيكو “كان نموذجاً استثنائياً للمثقفين الأوروبيّين فجمع بين فهمه الفريد للماضي وقدرة لا تنضب على التنبؤ بالمستقبل”، وفق ما ذكرت “رويترز”.
وُلِدَ إمبرتو إيكو (Umberto Eco) في العام 1932 في مدينة “ألساندريا” الواقعة في إقليم “بييمونتي”، وكان أبوه جوليو مُحاسباً قبل أن تستدعيه السلطات للخدمة العسكريّة في ثلاثة حروب. وقد أَخَذَ اسم عائلته إيكو (Eco) من الحروف الأولى للعبارة اللاتينية “ex coelis oblatus” (هبة السماء)، ومُنح لجده من قبل مكتب المدينة.
كان مقرَّراً له أن يلتحق بالجامعة لدراسة المحاماة، لكنّه عَدَلَ عن ذلك مفضّلاً التخصُّص في فلسفة القرون الوسطى وآدابها.
وما إنْ حصل على شهادة الدكتوراه عام 1954 حتى بدأ بتدريس الفلسفة في “جامعة تورينو” والعمل في الإذاعة الفرنسية وتلفزيون RAI والصحافة محرّراً للشؤون الثقافية، إلى جانب عمله في دار نشر “بومبيني” التي استمرّ فيها حتى العام 1975.
وحتى سنّ الخمسين لم يكن الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو معروفاً في المشهد الثقافي سوى بمؤلّفاته النظريّة في فلسفة اللغة والتأويل والدلالة، بيد أنّه كان فيلسوفاً عارفاً بأدب القرون الوسطى ومُنَظِّراً رفيع المستوى لبنية النصّ الأدبي ورموزه وعلاماته.
ولم يجرؤ رائد السيميائيّات (علم العلامات والأدلة والرموز ويدخل فيها اللسانيّات) وفلسفة اللغة، على دخول ميدان التطبيق العملي لأفكاره النظرية إلاّ في العام 1980، عندما قدّم أولى رواياته “اسم الوردة” (The Name of the Rose)؛ مكتسحاً المسرح الروائي بعملٍ متكامل فنّياً وفكرياً، وليعلن عن نفسه منذ ذلك الحين واحداً من أهمّ الروائيين المعاصرين في العالم.
تتابع رواية “اسم الوردة” الراهب ويليم الذي يلتحق بالدير فيجد أمامه سلسلة من جرائم القتل الغامضة التي يذهب ضحيتها رجال دين في الدير، ولأنّ “ويليم” يمتلك قدرة على التحليل المنطقي، فإنّه لا يستسلم للاعتقاد السائد بأنّ الجرائم سببها الأرواح الشريرة، فيبدأ رحلته مع الأسرار التي تكشف له، وعلى نحو مثير، أنّ القاتل يعيش في أروقة الدير. ويروي أمبرتو إيكو حكايته المشوّقة متّكئاً على مخزون هائل من المعرفة في خطاب القرون الوسطى.
بعد هذه الرواية بثمانية أعوام، أي في العام 1988، قدّم أمبرتو إيكو روايته الثانية “بندول فوكو” ليغوص أكثر في التاريخ والثقافة عبر قصّة لا تقلّ تشويقاً أبطالها ثلاثة محرّرين يقرّرون البحث عن خريطة فكرية للعالم تسمح بفهم أكبر لأحداث التاريخ ولوجود الإنسان نفسه، وتأخذهم رحلتهم هذه إلى أزمنة وأماكن مختلفة، من أوروبا القرون الوسطى.
وفي روايته الثالثة التي نشرها عام 1994 بعنوان “جزيرة اليوم السابق”، يذهب إيكو إلى الوراء أربعمئة عاماً تقريباً ليعرض حرب الإمبراطوريات الكبرى للحصول على خريطة خطوط الطول والعرض على سطح الكرة الأرضيّة والتي ستسمح لمن يمتلكها بمعرفة موقع أساطيله التجارية والحربية في المحيطات البعيدة وهو ما يعني فرض هيمنته على الجميع. إنّها رواية عن الدماء التي سُكبت من أجل اكتشاف صغير يدعى خطوط الطول سيغيّر مجرى التاريخ.
في ذلك العام سيقدّم إيكو كتاباً نقدياً عن التأليف الروائي بعنوان “ستّ نزهات في غابة السرد”، ثمّ سينتظر حتى مطلع الألفية الجديدة ليقدّم روايته الرابعة والمهمّة “باودولينو” التي تجلّى فيها خياله الخصب وقدرته على التحكُّم في عناصره الفنية، عبر حكاية تاريخية يتنقل خلالها البطل “باودولينو” الشبيه بـ”دون كيخوت” بين أزمنة مختلفة، وأماكن متنوّعة، واقعية وخيالية وأسطورية، عاش خلالها لحظات سقوط القسطنطينية، وحارب جماعة “الحشاشين”، والتقى بمثقّفي باريس، وبفيلسوفة الاسكندرية المتنوّرة هيباتا، كما سافر إلى الفردوس المفقود بحثاً عن حقيقة الأسطورة اليهودية.
وفي روايته “مقبرة براغ” الصادرة عام 2010، يكشف إيكو النقاب عن بعض الحقائق التاريخية التي يتمّ التكتُّم عليها أو إخفاؤها، وذلك من خلال اختلاق شخصية متخيّلة تسرد تفاصيل مثيرة، بحيث يبلور المزج بين الحقيقة والخيال صورة للحقيقة الروائية التي تستمد قوّتها من التاريخ والواقع، وتكتسب تفرّدها من تنسيبها إلى الخيال الروائي.
أصدر إيكو آخر رواية له عام 2015 بعنوان “العدد صفر” ينتقد فيها نظريّة المؤامرة، من خلال التحقيق الصحافي الغريب الذي يقوم به الصحافي براغادوتشيو عن مقتل موسوليني، إذ يعتقد الروائي الإيطالي الراحل أنّ نظريات المؤامرة تنتشر بشكلٍ غريب عبر مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.