يخطيء من يظن ان التاريخ ليس سوى كلام تحتويه المخطوطات البالية فحسب، او انه مادة للدراسات الاكاديمية التي تجرى في المكتبات ودور العلم، او ان الاهتمام به محصور باستنباط العبر. ومن يتابع حركة السياسات العالمية وتوجهاتها ومنطلقاتها يدرك بوضوح ان التاريخ احد عناصر تشكيل تلك السياسة، بل ربما كان في بعض المحطات، العامل الاهم في توجيهها. فليس هناك امة او شعب بدون تاريخ خاص او مشترك مع الآخرين.
السياسيون الذين يريدون ان يتظاهروا بالموضوعية والعقل يدعون بانهم قد «تحرروا من عقد التاريخ»، او انهم كسروا قيوده وتمردوا عليه. والعلماء يدعون انهم استوعبوه وحققوه ووثقوا وقائعه، وغربلوه ليفصلوا الحقيقة عن الوهم.
وتارة ما يتظاهر ذوو التوجهات الليبرالية بان مواقفهم وتصرفاتهم وسياساتهم انما يستوحونها من الواقع ولا يسمحون للتاريخ بالتأثير عليها. وما اجمل القول بان من الضرورة بمكان ان يبدأ الانسان تجربته من حيث انتهى الآخرون، اي ان يسمح لحركة التاريخ بالاستمرار وان تكون حركة الانسان عامل اضافة واثراء لتلك الحركة وليس تكرارا لها. وكثيرا ما يقال ان التاريخ يحفل بالغث والسمين، ويحتوي ما هو حقيقة وقع في الماضي وما هو مدسوس في صفحاته بدوافع سياسية ام غيرها. ولكن ما حقيقة الامر في ما يتعلق بدور التاريخ في صياغة الحاضر والمستقبل؟ وهل حقا يستطيع الانسان ان ينطلق على ارضية الحياد والموضوعية؟ وهل يسمح للعقل حقا ان يوجه مواقف الافراد والامم بعيدا عن ترسبات الماضي وآثاره التي تركها على المسار العام للشعوب والامم والافراد؟ ولتوضيح اهمية التاريخ في صياغة المسار البشري تكفي الاشارة إلى مدى حضور اسم «عيسى» في العالم المسيحي، و»محمد» في عالم المسلمين.
أوليس ذلك استدعاء متواصلا للتاريخ؟ الامر المؤكد ان فكرة ذلك الاستدعاء ليست سلبية في الاساس، وانما السلبي استخدامه اداة للعودة للماضي وتجاهل الانجازات والتطورات التي حدثت في الحقب التالية. كما ان السلبي ايضا استدعاء وقائع ذلك التاريخ خارج ظروفها واطرها، الامر الذي يجعل التخندق وراءها عودة للماضي بدون عقل او منطق.
بضع قضايا يجدر ذكرها لتوضيح الافكار المطروحة ضمن اطر العقل والمنطق. في الاسبوع الماضي اتضح ان مشجعي كرة القدم البريطانيين مصممون على حضور مباريات الدوري الاوروبي هذا العام وهم يرتدون الازياء الصليبية. ومن شأن ذلك استفزاز مشاعر المسلمين الذين تمثل الحروب الصليبية في وجدانهم عدوانا عليهم باسم الدين. ويرى المسلمون في الحروب الصليبية أنها كانت حروبا استعمارية، وتتلخص بأنها دموية، إقصائية بالإضافة لكونهم يرونها حروبا استغلالية انتهازية سعى قادتها من الفرنجة إلى تطويع إيمان البسطاء للسيطرة على ثروات ومقدرات الشرق. ويستخدم المصطلح اليوم لوصم جماعات أو تحركات بأنها ذات دوافع عقائدية وأهداف استغلالية، أو للحصول على شرعية دينية لمواجهتها؛ وذلك بربطها بالذكرى المشتركة القاتمة لدى الشرق لحروب الفرنجة، فقد استخدم المصطلح من قبل معمر القذافي لوصف عمليات حلف الناتو في ليبيا عام 2011 متهما الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بشن «حرب صليبية جديدة» في أفريقيا وقائلا «نحن بوابة أفريقيا ترس أفريقيا درع أفريقيا. أفريقيا كلها وراءنا ومعنا وتدافع عن الامة الإسلامية وتدافع عن الإسلام امام حملة صليبية اعلنها رئيس فرنسا بنفسه». انه استدعاء للتاريخ كلما اقتضت حاجة المسلمين لذلك الاستدعاء. وبرغم مرور ثمانية قرون على تلك الحروب الا انها حاضرة في الثقافة والسجال الديني والفكري والسياسي لدى الطرفين. هذا مع الاعتراف بصعوبة تجاهل التاريخ حين يحمل قصصا مروعة عن الاحتلال والهيمنة والاهانة والاستعباد. فالافريقي لا يستطيع التعامل مع الغربي بدون استحضار تاريخ العبودية والرق والعنصرية، وهو احد الفصول السوداء في التاريخ البشري.
المثال الآخر الذي يكشف حضور الماضي في سياسة الحاضر موقف الغرب من تركيا. فالغربيون يصرون على استدعاء وقائع حدثت قبل اكثر من قرن لخدمة موقفهم السياسي ازاء تركيا. هذه الوقائع تغيب تماما حين يسعى الغربيون للاستفادة من الامكانات التركية، كتشجيع تركيا على المشاركة في ما يسمى «الحرب على داعش» او السعي للتوصل لاتفاق مع انقرة بشأن اللاجئين الذين يتوجهون إلى اوروبا عبر الاراضي التركية، او استخدام امكاناتها العسكرية وقواعدها لشن الحروب في العالم العربي، ومنها قاعدة «انجيليك».
فتارة تكون تركيا هي «الحليف الاستراتيجي» للغرب، كونها عضوا بحلف شمال الاطلسي (ناتو)، وتارة يطرح عكس ذلك. فهي «دولة مسلمة» لا يسمح لها بدخول النادي المسيحي (الاتحاد الاوروبي)، ولتبرير ذلك تطرح شروط تعجيزية ويستدعى التاريخ بشكل متكرر لمطالبة تركيا بالاعتذار عما يسميه الغرب «مذابح الارمن». وفي الاسبوع الماضي سحبت تركيا سفيرها من ألمانيا بعد ان أقر البرلمان الالماني قرارا يعتبر تلك الحوادث التي وقعت في 1915 «إبادة». هذا برغم ان الغرب لم يفعل شيئا لوقف ذلك، حتى عندما كان السفير الامريكي في انقرة يطلع حكومته على ما كان يحدث.
الأمر الواضح ان استدعاء ذلك التاريخ بشكل شبه يومي يهدف لرفض الطلب التركي المتواصل منذ اكثر من عشرين عاما، للانضمام للاتحاد الاوروبي، برغم عضويتها بحلف الناتو. وألمانيا التي تتصدر الدول المعارضة لعضوية تركيا هي نفسها التي اضطهدت اليهود بعد ربع قرن من حوادث الارمن، وقتلت اعدادا كبيرة منهم. فماذا يعني التاريخ هنا؟ وكيف يفرض نفسه على يوميات السياسيين ومواقفهم وتحالفاتهم؟ فمن الضرورة بمكان الاستفادة من عبر التاريخ، ولكن اذا استغل لاهداف سياسية اصبح وبالا على الناس، وساهم في تصعيد الازمات ومنع الحلول وتعميق الشروخ بين البشر. وحين يصبح ذلك التاريخ سجنا يتوقف مسار الانسانية لأنها لا تستطيع الافلات من الماضي بمصائبه وفجائعه.
ولعل التوظيف الاخطر لوقائع التاريخ ما يجري في اوساط المسلمين اليوم، خصوصا الفتنة المذهبية الطاحنة. فالقضية هنا ليست دينية، اي لا تتصل بالاختلافات الفقهية او جوهر الانتماء المذهبي، بل بالاجترار المبتذل للتاريخ برغم ما يعتريه من تشويش وتلفيق. هذا التاريخ يعاني من اشكالات عديدة: اولها البعد الزمني عن الواقع الحالي، وثانيها: افتقاره للتوثيق والتحقيق العلمي المجرد من العواطف والشخصنة. وثالثها: غياب المصادر المستقلة التي دونت هذا التاريخ، واغلب فصوله كتبه الحكام لخدمة اغراضهم.
ان اجترار حوادث التاريخ التي لم تخضع للتحقيق الموضوعي العلمي، يحوله من وسيلة ايجابية للبناء وشحذ همم الاجيال للنهوض على خطى الأوائل إلى عامل هدم وتثبيط وربما تعصب وبغضاء. هذا الامر قد يؤدي للاحتراب غير المشروع باستخدام الدين وسيلة لاضفاء الشرعية على حروب غير مشروعة لأنها مؤسسة على وقائع تاريخية غير مثبتة. في مثل هذه الظروف يتم تغييب العقل، فيتم التشبث بنصوص غير محققة ويتم تحميلها ما لا تحتمل. ايا كان الامر يتفق العقلاء على ان الصراع الذي يمزق جسد الامة ليس مرتبطا بالعقيدة او الفقه، بل بالسياسة التي ليس لها دين او مذهب او اخلاق. فحين يلتقي علماء الامة، حتى في هذه الايام الحالكة، يتبادلون المشاعر الايجابية المشتركة ولا يروجون لقضايا الاختلاف الفقهي التي يمكن اعتبارها تجسيدا للتعدد وحرية المعتقد والفكر. هذا لا يعني عدم جدوى قراءة التاريخ، خصوصا اذا كان بهدف المعرفة والعبرة والاقتداء بالصالحين، ولكن اجتراره باساليب مجتزأة وتحميله غير ما يحتمل، فذلك امر لا ينسجم مع العقل والمنطق. فالوقائع لا يمكن قراءتها بشكل كامل بدون قراءة ظروفها الزمانية والمكانية من جهة، بالاضافة لقراءة الطبائع والامزجة من جهة اخرى. وهناك طرفان اساسيان لهذا التاريخ: صانعوه وقارئوه، ولكل منهم صفاته وابعاده التي لا يمكن ترحيلها عبر الزمان والمكان او استنساخها في ظروف تفصلها القرون من الزمان والمسافات الشاسعة.
لقد تحول التاريخ إلى احدى ادوات السياسة في عالم اليوم، خصوصا في غياب حكم القانون وتداعي التزام الساسة واصحاب القرار بالقيم والمبادىء والاخلاق. فالسياسي او الناشط او المفكر الذي يسعى لاسقاط التاريخ المبتور على واقعه انما هو انتهازي بعيد عن الموضوعية والواقع، ولا يؤدي هدفا نبيلا سواء للبشرية ام للامة او للفئة. التاريخ مصدر الهام ومدرسة للمتعلمين، ومنبع علم لا ينضب، ولكن بشروط: عدم تقديسه او اسقاطه بشكل اعمى على الواقع او اعتباره اداة لضرب الآخرين، او الخضوع لاملاءاته ما لم تعرض على مرجعيات اهم، كالقرآن والسنة النبوية عند المسلمين. فما يحتويه انما هو اجتهادات البشر التي لا تخلو من الخطأ ولا يمكن اعتبارها مرجعية الا بقدر التزام اصحابها بمبادئهم. والحقيقة التي يحتويها ذلك التاريخ نسبية وليست مطلقة، ومحكومة بظروفها الزمانية والمكانية، ومرتبطة بافراد او جماعات محكومين بمنطق الصواب والخطأ. وفي الوقت الحاضر اصبح واضحا ان التاريخ يستخدم كسلاح في معركة كسب النفوذ باية وسيلة مهما كانت دنيئة. وتوخي الحذر هو الاسلوب الاسلم حين يسعى البعض لاسقاط التاريخ على الواقع او يستخدمه لاستشراف المستقبل. التاريخ مكمل لحياة البشر خصوصا من يتطلع منهم لتجاوز هفوات الماضي وعقده، ولكن من الضرورة بمكان قراءته بموضوعية وتجرد، وتنقيحه من التزوير، وتحقيق وقائعه وفق المحددات العلمية، وان تكون القراءة شاملة تستحضر طبائع الناس على اختلاف امزجتهم وانتماءاتهم ومدى استقامة سلوكهم وشخوصهم.