عادت معارض الكتاب الدولية في بعض الأقطار العربية إلى دورتها السنوية المعتادة. وبعض الدول العربية لن يقام فيها أي معرض للكتاب بسبب التعنت الطائفي، والاقتتال الدموي الذي لا يرى سبيلا لحل المشاكل بالحوار الهادئ، الذي يغلب مصلحة الوطن على أي مصلحة.
وكالعادة، ستمتلئ الأروقة بالكتب، وتقام على هامشها في قاعات خاصة ندوات لتقديم الكتب، وطاولات مستديرة للحوار، وصفقات بين الناشرين، وحركة إعلامية موازية.
المعرض الدولي للكتاب عرس ثقافي بامتياز حين توفر له الشروط التي تضمن نجاحه. لكن الذي يجري عادة، هو أنه ما أن تغلق أبواب المعرض حتى تعود الأمور إلى نصابها، من دون أن تكون أي متابعة لما تحقق في المعرض أو أنجز فيه. فإذا كل معرض حلقة منفصلة عما قبلها وما بعدها. تثار في العادة، وفي كل معرض، وفي كل سنة، قضية القراءة، وتفتح ورشات للقراءة لفائدة الأطفال وفضاءات خاصة بهم، لكن كل شيء ينتهي بانتهاء المعرض.
ثقافة الكتاب لم تتأسس في الوطن العربي على تقاليد تجعل منه جزءا أساسيا من حياة الفرد العربي. وعندما صارت الوسائط المتفاعلة تفرض نفسها في الساحة العربية، كانت تلك مناسبة للحديث عن موت الكتاب الورقي، وهي في الحقيقة ليست سوى تبرير لتكريس لـ»ثقافة الأمية» كمقابل لـ»ثقافة الكتاب». وليس أدل على ذلك من كون هذه الوسائط المتفاعلة لم تحل مشكلة «القراءة»، بل إنها ضاعفت من حدتها، فالطالب مثلا يجد أمامه في الفضاء الشبكي «معرضا عالميا للكتاب» بشكل دائم ومتواصل، وبكل اللغات، وفي مختلف الموضوعات، ولكنه يسألك عن «المراجع» التي يمكنه الرجوع إليها لإنجاز تكليف أو بحث؟ وحتى عندما تمكنه من تقديم الرابط المباشر للكتاب، يؤكد لك صعوبة التحميل. وإذا ما بعثت له نسخة الكتاب على بريده الإلكتروني، تجد نفسك، وأنت تسأله عن الكتاب، يتذرع بصعوبة قراءة الكتاب على شاشة الهاتف أو الحاسوب؟
إن القضية قضية قراءة. والقراءة تعبير عن سلوك حضاري وثقافي، تتميز به الأمم عن غيرها. عندما جاء الإسلام حمل معه «ثقافة الكتاب» لإخراج المجتمع العربي من «ثقافة الأمية». بواسطة الكتاب ساهم العرب والمسلمون في الحضارة البشرية، وتركوا من خلال تصنيف الكتب تراثا إنسانيا غزيرا ما يزال إلى الآن محط الاهتمام والدراسة وبكل اللغات العالمية. فما الذي جعلنا نعود إلى ثقافة الأمية بعد أن كنا أهل «ثقافة كتاب»؟
تتعدد الأجوبة على ذلك وهي ذات أبعاد تاريخية وثقافية. لكنني أركز على البعد التربوي والاجتماعي في العصر الحديث. فمنذ أن عرفنا المدرسة الحديثة، تم ربط التربية بالوظيفة. لذلك كان الكتاب أداة للرقي الاجتماعي، وليس للتكوين الثقافي للفرد. ويبدو ذلك في كون القراءة مرتبطة بالامتحان، وليس بالحياة. وآية ذلك أن المرء ما أن يوظف حتى تنقطع صلته بالكتاب، وتصبح قراءاته وقتية، خاصة ما تقدمه له وسائل الإعلام التقليدية. وعندما اتسعت دائرة الوسائط المتفاعلة في واقعنا العربي، صارت العلاقة عابرة وتتم مع الصورة والفيديو، ومع بعض الأخبار المثيرة.
في الدول التي يحتل فيها الكتاب مكانة كبرى، وهي الدول المتقدمة طبعا، يفتح الطفل عينيه على مكتبة البيت، قبل أن يراها في المدرسة. إنه وهو لم يتعلم الأبجدية بعد، تصبح له علاقة قوية بالكتاب. فهو من يختار لأمه الكتاب الذي عليها أن تقرأه له قبل أن ينام. وأجمل هدية تحملها إليه جدته هي الكتاب. حين يصبح الكتاب جزءا من حياة الفرد لا يتعامل معه تعاملا ذريعيا وظرفيا. لذلك نجد الفرد في الدول المتقدمة ذا علاقة متواصلة مع الكتاب أيا كان مستواه الدراسي أو الوظيفة التي يشغلها. فالكتاب بالنسبة إليه هو النافذة التي يتعرف من خلالها على العالم. ويكفي أن نتابع حلقات المسابقات الثقافية في القنوات الأجنبية، لنرى المتبارين من أعمار مختلفة، ومن مهن متعددة، يمتلكون ذخيرة ثقافية مشتركة وفي مختلف الاختصاصات والمعارف. وتكون الهدايا المقدمة لمن أخلى المنصة بعد البلاء الحسن رزمة من الكتب والموسوعات التي تحس بالشخص يفرح بها أيما فرح.
بالنسبة إلينا نجد المسابقات «الثقافية»، إن وجدت، تطرح أسئلة سخيفة، أو تتضمن الجواب، والجوائز مجزية بالملايين؟ أليس هذا تكريسا لثقافة الأمية؟ المشكل الحقيقي يتعلق بالتربية الثقافية على الكتاب. إننا لا نشتري من الكتب إلا التي نحتاج إليها لسبب ما، وغالبا ما يكون عابرا. فعلاقة التلميذ والطالب وهما إنسان الغد العربي بالكتاب عابرة ومؤقتة، ولا داعي للحديث عن الذين يتحملون المسؤوليات الكبرى المتعلقة بمصير الأمة. إنهم ذاك الطالب والتلميذ، ولذلك تسود عندنا أنواع متعددة من الأميات، ولقد أضيفت إليها الأمية المعلوماتية.
إذا كانت مشكلة القراءة التي طرحناها تتعلق بمطلق القراءة، فإن هناك مشكلا لا يقل خطورة عن تلك، إنه مشكل كيفية القراءة. ومعنى ذلك أننا لا نقرأ فقط، ولكننا أيضا لا نحسن القراءة، فالكثيرون، ومنهم باحثون، لا يقرؤون إلا ما يحشون به كتاباتهم من استشهادات؟
غياب ثقافة الكتاب يعني حضور ثقافة الأمية وهيمنتها.