مع تباشير شهر رمضان بدأت تبرز في الأسواق من المواد الغذائية ما يشي بأن الشهر قريب الحلول. وبين الفينة والأخرى تظهر إعلانات في القنوات الفضائية عن بر امج جديدة، ومسلسلات تشد الأنفاس. ومع تزامن هذا الشهر مع الصيف، صارت تتقاطع النشاطات الثقافية الموزعة بين الشهر والفصل، فإذا بنا أمام تراكم من الأنشطة الترفيهية والفعاليات التثقيفية. لا لأحد أن ينازع أو يجادل في أن تكون للثقافة مناسبات محددة وموقوتة بحدث أو إجازة، فما هذه المناسبات سوى لحظات للتذكير والتوقف، لكن أن تعود الأمور إلى سابق عهدها بعد انفراط الذكرى فهذا دليل على غياب آثار إيجابية لتلك الفعاليات على النفوس والعقول.
إن الثقافة ليست فقط ذكرى أو لحظة مختطفة من زمان ما، فما لم يتحول الفعل الثقافي إلى حدث يومي ينشغل به الناس، وهم يمارسون نشاطهم العادي سيظل الأثر المطلوب من الفعل الثقافي محدودا وناقصا. ويكفي أن ننظر في الأنشطة الثقافية التي تحتويها الجامعات والكليات لنجدها تتركز، في أغلب الأحيان، في بداية الموسم الجامعي، أو في آخره، وقلما يساهم فيها الطلبة بالحضور والاستفادة، لأنها غالبا ما تتزامن مع ما يترتب على بدايات الدخول من ارتباك ومشاكل، أو ينجم من مضاعفات في آخر السنة الجامعية. أما الثقافة «الجماهيرية» التي تروج لها وسائل الإعلام الجماهيرية، فغالبا ما تكون رهينة المناسبات الكبرى مثل، شهر رمضان. وتظل الثقافة «الشعبية» في بعدها الترفيهي مرتبطة خاصة بالصيف.
إن ربط الممارسة الثقافية بمناسبة من المناسبات، لا يمكنه أبدا أن يسهم في تطوير الفعل الثقافي، ولا ما يراد له من ارتقاء بحياة الناس إلى مستوى أعلى يؤهلهم للانخراط في الحياة بوعي ومسؤولية. ويكفي أن نقارن الممارسة الثقافية بنظيرتها الرياضية مثلا لنجد الفرق بينهما كبيرا جدا. إننا نتحدث كثيرا عن الموسم الرياضي، ونخص بالحديث كرة القدم، الذي يبتدئ عادة بعد الصيف، ويستمر التباري أسبوعيا خلال العام بكامله على المستوى القطري. وتتخلل هذه المباريات أخريات على المستوى الجهوي والقاري والدولي. هذا إلى جانب اهتمام القنوات بنقل مباريات من أقطار أخرى، وتساهم الصحافة بمختلف أنواعها في تخصيص صفحات وملاحق وجلسات طويلة وندوات متواصلة حول مباراة واحدة. وقد تتنافس القنوات في اتخاذ مقابلة أو لاعب موضوعا للحديث والتعليق… كل هذه المتابعات تجعل «الممارسة الرياضية» واقعا يوميا مشهودا، ولذلك لا عجب أن نجد متابعة أخبار الرياضة وما يتعلق بها، الشغل الشاغل لتلاميذنا وطلبتنا وجماهيرنا بصفة عامة. وتجد «المهتمين» بالشأن الرياضي من الشباب يتسابقون على احتلال كراسي المقاهي والملاعب قبل بدء المباريات بزمن طويل؟
فما الذي يجعل الرياضي يسبق الثقافي في مجتمعاتنا العربية، وقد كان الأحرى أن تكون الثقافة سابقة؟ ولماذا لم ننجح في جعل جمهور الثقافة نظير جمهور الرياضة؟ فهل الرياضة أهم من الثقافة؟ أسئلة كثيرة تفرض نفسها علينا في هذا المضمار، لكننا نقدم جوابين عنها، يكمن أولهما في كون وسائط الإعلام الجماهيري تعمل على خلق الجمهور الرياضي وتوجيهه إلى الرياضة أكثر من عملها على خلق جمهور الثقافة. ويتجلى الثاني في كون النشاط الرياضي منتظما ومؤقتا بتوقيت محدد يفرض على الجمهور الانضباط له ومتابعته. أما العمل الثقافي، فهو غير خاضع لزمن محدد، وتغلب عليه المناسبات الظرفية والعابرة. ولهذا السبب لم يخلق عادات لدى الجمهور لمواكبته، أو حتى التعرف على زمان وقوعه.
يتضافر البعدان في جعل الثقافة دون مستوى الرياضة في بلداننا العربية، ولذلك لم نسهم في خلق الجمهور الثقافي الذي يمكن أن يكون دائما وفاعلا أيضا على المستوى الثقافي. وكل المناسبات الثقافية التي يتم استثمارها بين الفينة والأخرى غير قادرة على خلق جمهور ثابت. إن ثقافة المناسبات تنتهي بانتهاء المناسبة. وعندما ننظر ما يجري في العالم المتقدم، نجد العمل الثقافي نظير العمل الرياضي، سواء على مستوى التوقيت أو الاهتمام أو في الإعلام. ولهذا السبب نجد تقدمهم في المجال الرياضي يوازيه تقدمهم في المجال الثقافي، لأنه لا يمكننا الحديث عن أي تقدم في أي مجال بدون أن يواكبه تقدم في مجالات أخرى. وآية ذلك ما نجده في وطننا العربي، فرغم كل ما يعطى للرياضة من اهتمام ودعاية ورعاية، نجدنا ما نزال نحتل مراتب دنيا في المنافسات الرياضية الدولية المختلفة، وحتى الجمهور الرياضي الذي يخلقه إعلامنا وممارستنا الرياضية يظل دون مستوى الجمهور الرياضي في البلدان المتطورة، وأقصد هنا بصورة خاصة مشجعي الفرق الرياضية. وحين نربط ذلك بما وقع مؤخرا، في بعض المدن المغربية، بين جماهير بعض الفرق الكروية من اقتتال وما خلق من اضطرابات في الملاعب والشوارع، يتبين لنا المستوى «الثقافي» للجمهور الرياضي؟
يمكن أن تكون المناسبات الثقافية ضرورة يمليها زمان وذكرى. لكن الذكرى والزمن إذا لم يتحولا إلى مناسبة لخلق عادات جـــــديدة، وجمــــهور جديد يتابع المسرحية، والندوة الثقافية، وينخرط في النقاش الفني والفكري، فإنهما سيظلان فقط مناسبة لتزجية الوقت وملء الفراغ.