تلقيت في شهر نوفمبر/تشرين الثاني دعوتين من المغرب للمشاركة في هيئة تحرير أو الهيئة الاستشارية لمجلتين تعنيان بالثقافة الرقمية. وقبلهما بقليل تلقيت دعوة من قسم اللغة العربية في جامعة الملك خالد للمساهمة في مؤتمر حول الثقافة الرقمية. وقبيل شهر، طلبت مني مجلة «فصول» المصرية المساهمة في دراسة حول الأدب الرقمي. وفي سلك الدكتوراه في الرباط يشتغل معي حاليا باحثان في الأدب نفسه، وفي ماستر في مكناس أدرس مادة الصحافة الإلكترونية والرقمية.
لا يمكن لأي مهتم بالشأن الثقافي العربي إلا أن يثمن تزايد الاهتمام بالثقافة الرقمية، وبكل ما يتصل بالوسائط المتفاعلة. ومنذ أن بدأت الاشتغال في أواخر التسعينيات بهذه الثقافة سجلت أننا متأخرون عن العصر، وأن على المثقفين ورجال التربية والأدب أن ينخرطوا في الفضاء الشبكي، ويجددوا معارفهم بما يفتح لنا مجالات واسعة للإبداع والتفكير من أجل المستقبل. لكن التذبذب بين القديم والجديد، لدى الأغلبية، والحماس الزائد للجديد، لدى البعض الآخر، جعلا إقدامنا على الانخراط الواعي متعثرا، ومشاركتنا في الواقع الافتراضي ناقصة. ورغم تجاوز الحماس والتذبذب، واتساع دائرة الاهتمام، بعد مرور أزيد من عقد ونيف، ما نزال بمنأى عن تحقيق الغايات المأمولة، أو إنتاج الوسائل التي بمقتضاها نتعدى الاستهلاك، أو ننخرط في فتح نقاش جاد حول الثقافة الرقمية، أو نسهم في إبداع الأدبيات الفكرية والمعرفية التي تجعلنا نتجاوز المحاكاة إلى الإنتاج.
لقد بات الاهتمام بالثقافة الرقمية عموما، والأدب الرقمي خاصة يشد عناية بعض الباحثين والكتاب وفي مختلف أقطار الوطن العربي. وصارت تظهر بين الفينة والأخرى مقالات ودراسات ومؤلفات حول أحد هذين الموضوعين. كما أن بعض أقسام اللغة العربية وآدابها باتت تدرج مادة الرقميات أو الأدب التفاعلي في بعض مقرراتها. لكن أهم ملاحظة أسجلها حول هذه الكتابات هو أنها تدور في فلك واحد بلا اجتهاد ولا إضافات، وحتى المراجع التي يتم الرجوع إليها تظل هي نفسها. كما أن طريقة التناول أو المعالجة تظل تسير في الاتجاه عينه. وفي المقابل حين نتابع ما يكتب وينشر خارج فضائنا العربي حول الثقافة الرقمية نجد القضايا متعددة، والأطروحات متنوعة وغنية وغزيرة وعميقة. وكثيرا ما أطلع على بعض الكتابات العربية في الموضوع فلا أجد فيها مرجعا أجنبيا واحدا، فأتبين أن البعض ينخرط في المجال وهو غير معد للكتابة فيه أصلا، وأن كل عمله لا يتجاوز الترقيع والقص واللصق؟ إذ كيف ينشغل به من لا يطلع على الكتابات الأصيلة في الموضوع. والنتيجة هي أن السائد في تعاملنا مع الثقافة الرقمية هو عدم مواكبة ما يجري، وبساطة التناول وسطحيته، واستسهال الموضوع، والإقدام على الانشغال به بلا وعي نظري أو إبستيمولوجي، أو تكوين معرفي حقيقي.
يترتب على هذا الوضع عدم تطورنا في الاهتمام، وعجزنا عن الانخراط في هذه الثقافة الجديدة بما يتطلبه الأمر من جدية في الطرح، وعمق في الفهم، ومسؤولية في المعالجة. ومع ذلك فإنني أشجع على الانخراط في الاهتمام، وأدعو إلى المزيد من الاشتراك في المجال، وأن الزبد يذهب جفاء مع الزمن، وأن تبلور التصور الدقيق سيتحقق مع الصيرورة؟
ولكي نصل إلى ما نود الانتهاء إليه في سبيل اهتمامنا بالثقافة الرقمية العربية، وسلوك الطريق الملائم الذي يضعنا على سكتها لتحقيق انطلاقة حقيقية، تعطي ثمارا للمجهودات المبذولة في هذا الموضوع، لا بد لنا من طرح ما أسميه «سؤال» الثقافة الرقمية العربية. إنه بدون طرح هذا السؤال، والعمل على الجواب عنه بمسؤولية ووعي وتغيير في الذهنية، سيظل اهتمامنا وانشغالنا بها محدودا ومتخلفا وناقصا.
هذا السؤال هو: كيف يمكننا التعاطي مع الثقافة الرقمية؟
أطرح هذا السؤال العميق، وقد لا يراه بعض القراء والمهتمين بالثقافة الرقمية كذلك، لأننا منذ ما يسمى بعصر النهضة إلى الآن تعاطينا مع إبدالات معرفية متتالية ومتعددة في الفكر والأدب والإبداع والسياسة، وهي تنتج خارج فضائنا الثقافي، وتفاعلنا معها تفاعلا سلبيا. وكانت النتيجة أننا نتبين بعد برهة من الزمن أن علينا سلوك طريق آخر، والانخراط في أسئلة أخرى، ونحن لم نجب على ما سبقها من أسئلة. وأن طريقة تعاطينا مع هذا الإبدال المعرفي أو ذاك تنهض على الاختزال والتبسيط والسجال العقيم حول المصطلحات والمفاهيم؟
أتساءل الآن كيف تعاطينا مع الليبرالية والعقلانية والاشتراكية؟ ما هي الأدبيات التي راكمناها بخصوصها، ويمكن لأي منا أن يعود إليها الآن بعد انصرام الزمن ليجد فيها تراثا رصينا قابلا لـ»الاسترجاع» والتطوير في زماننا هذا؟ ما هي الواقعية في الأدب؟ وكيف فهمناها ومارسناها؟ اشتغلنا ردحا من الزمن بالبنيوية التكوينية. فماذا أنجزنا في إطارها؟ وقل الشيء نفسه عن البنيوية التي صرنا، وهي قريبة العهد من وقتنا، ندعي أنها انتهت، وعلينا أن نحرق كل المؤلفات المصنفة في إطارها؟ ويمكننا تعداد الأسئلة حول أشكال تعاطينا مع ما ينتج خارج مجالنا الثقافي؟
لا بد من طرح سؤال الثقافة الرقمية بوعي جديد يقطع مع قرن من التفاعل السلبي مع الثقافة الحديثة.