سعيد يقطين : 19 يناير 2016
عرفت المقالة السابقة التي تساءلت فيها عن «متى سيكون لنا حديث عن العلوم الأدبية واللسانية؟» في الجامعات العربية ردود أفعال كثيرة، تعمق السؤال وتلح على أهميته، وأحيانا تكتفي بطرح السؤال.
ويبين هذا أن الرأي الشائع حول العلاقة بين العلم والأدب في الوعي والممارسة قابل للتحول إذا ما تم خوض نقاش أكاديمي حقيقي بين المشتغلين بالأدب في وطننا العربي. ولعل أهم نقاش يمكن أن يتبادل فيه الأكاديميون والمثقفون، على حد سواء، وجهات النظر بهدف تعميقها وتطويرها ينصب على التصورات السائدة في الوعي والممارسة، اللذين استمرا منذ عصر النهضة إلى الآن، وما يزالان مرشحين لنقلهما إلى الأجيال القادمة؟
إنه بدون مراجعة شاملة وقراءة متأنية لهذه التصورات بتأمل وعمق، لا يمكننا أبدا أن نخطو خطوة واحدة نحو التجاوز. لتبدو هذه التصورات التي أعتبرها بمثابة الأساطير، بوضوح، سأحاول ترتيبها على النحو التالي:
ـ النص يحدد المنهج.
ـ النص يفرض تعدد المناهج.
ـ النص العربي يفرض المنهج العربي.
أرى أن هذه الأساطير الثلاث تشكل عائقا حقيقيا أمام أي تفكير جديد في العلاقة بين الأدب والعلم في جامعاتنا وكلياتنا العربية. وإذ أعتبرها أساطير فلأنها صارت بمثابة «حقائق» مطلقة يسلم بها الأستاذ والطالب معا. وهي أساطير لأنها تحجب أي تفكير في الأدب بدون الانطلاق منها. ورغم محاولتي اختزال تلك الأساطير الثلاث فإن التصورات النقدية السائدة التي تتجسد من خلالها، تبدو عبر أفكار أخرى ترتد إليها. وهي جميعا قابلة لأن نحددها في أسطورة جامعة مانعة، مفادها: استحالة دراسة الأدب دراسة علمية. ويمكننا تحليل هذه الأسطورة وما يتفرع منها من خلال مناقشة آثارها على الدرس الأدبي العربي.
إن القول بأن النص يفرض المنهج، يجعل الناقد، وليس الباحث (لأن الباحث يشتغل وفق رؤية علمية مختلفة)، ينطلق من وجهة نظره التي يشكلها عن النص، ويرى أن القراءة التي يرتضيها، تقضي بأن النص ذو ملامح نفسية، وعليه أن ينطلق في تحليله باعتماد خلفية نفسية. ولكن ناقدا آخر قد يلتفت إلى أن للنص عينه أبعادا اجتماعية، فينبري لها مستأنسا بالعدة الاجتماعية، وقس على ذلك. والتبرير الذي يمكن أن يقدمه كل من المشتغليْن بالنص نفسه، يجدان ما يكفي من المسوغات، إذا ما ناقشنا كلا منهما في سبب اختياره للزاوية «المنهجية» التي اعتمدها، بالذهاب إلى أن النص متعدد الدلالات والأبعاد؟
لا أحد يجادل في تعدد أبعاد النص ودلالاته، لكن هذه الادعاءات ليست مبررا للقول بأن النص يحدد المنهج، أو يستدعي تعدد المناهج في دراسة واحدة. إنها ادعاءات زائفة لأنها تعمل على تأكيد الأسطورة الجامعة. وإذا ما سلمنا جدلا بأن هذه التصورات المنطلق منها «سليمة» نظريا، نتساءل كيف يتأتى للناقد أن يكون ملما بكل المناهج، ومدركا لكل اتجاهاتها وتياراتها المتعددة حتى يتسنى له توظيفها منفردة أو مجتمعة في قراءة نص معين؟ لا شك أن هذا الناقد سيكون علاّمة عصره، وموسوعي الثقافة، ومدركا لكل الخصوصيات التي تتصل بمختلف تلك المناهج؟
ما تزال المقررات المتصلة بالمناهج الأدبية تتحدث عن المنهج النفسي والاجتماعي والفني… ولا يمكننا سوى التساؤل عن فحوى المنهج الاجتماعي والنفسي على سبيل التمثيل؟ فماذا نقصد بالضبط عندما نتحدث عن أحد الاختصاصات المتعلقة بالعلوم الاجتماعية والإنسانيات؟ هل نقصد العلم؟ أم أحد المناهج التي يتم الاشتغال بها فيه؟ فالكل يعرف أن علم الاجتماع علم واحد، لكن المناهج الاجتماعية متعددة بتعدد المدارس والتيارات، وهي متطورة مع الزمان. فعن أي منهج اجتماعي أو نفسي نتحدث عندما ندرِّس طلبتنا، أو نقترح عليهم الاشتغال وفق المنهج الاجتماعي أو النفسي؟ ويمكن قول الشيء نفسه عن الفني واللساني. إننا عندما لا نميز بين العلوم ومناهجها يستوي العلم عندنا والمنهج الذي يصبح مختزلا في ممارسة اجتماعية محددة، نعتبرها الإطار الاجتماعي الأعم والأشمل.
غير أن بيضة الديك الكبرى نجدها كامنة في الأسطورة التي تقول بأن النص العربي لا يمكن إلا أن يعالج بالمنهج العربي؟ سوف لا نجادل هذا التصور بالذهاب إلى أن المناهج الاجتماعية والنفسية التي يعتمدونها، وهم يدافعون عن أسطورة تعدد المناهج، لا علاقة لها بـ»المنهج العربي» الذي يدّعون التفكير فيه، أو توهم الاشتغال في نطاقه. لكن السؤال الحقيقي الذي يفرض نفسه: ما هي طبيعة النص العربي؟ وما معنى اختلاف النص العربي عن غيره من النصوص الأجنبية حتى نفكر له في نظرية خاصة تلائمه، على اعتبار أن المناهج الغربية تولدت في ضوء اشتغالها بالنصوص الأجنبية؟ وإذا ما رام باحث أجنبي الاشتغال بالتراث العربي، وفق مناهج البحث العلمي التي تكرست في ثقافته الغربية هل علينا أن نواجهه بأن يدرس تراثنا أو نصوصنا المعاصرة، بمنهج «عربي» لأن تلك المناهج لا تتلاءم مع ثقافتنا ونصوصنا؟ ويمكن قول الشيء نفسه عن باحث عربي أراد قراءة نصوص أجنبية، هل نطالبه بقراءتها في ضوء المناهج الغربية؟
حاجتنا إلى جامعة جديدة، رهينة بحاجتنا إلى تصور جديد للمنهج؟