لشهر رمضان الفضيل هالة دينية و اجتماعية كبيرة لدى نفوس الناس ، ما أن يحل حتى تجد الكثير منا يقطع بشكل مفاجئ عادات سيئة تتنافى وروح الصيام و القيام ، في كل يوم رمضان تتاح له فرص كثيرة تحرضه عليها إلا أنه يفرمل هوى النفس على مسافة صفر من الهدف المرغوب حتى يكاد ينفطر قلبه و ينقلب عقله ، هناك من يتحسر على ضياع الفرص و اشتداد سلطة المجتمع و سلطة الوازع الديني في هذا الشهر إلى درجة يتمنى فيها البعض مروره بسرعة ليعود إلى سالف الأيام ، هناك من يعتبره استراحة محارب تجعله يتفرغ ذهنيا لعشرات المخططات التي يشتاق لتنفيذها بعد انصرامه ، و هناك من يقول و بحسن نية هذه هي المرة الأخيرة لطيشي لكنه لا يكاد يمر وقت قصير حتى يجد نفسه وفيا لعاداته القديمة ، إنه صراع حقيقي إذن بين رغبات النفس اللامتناهية و بين التنظيم الرباني لسلوك الفرد أو بين رغبات النفس و الضوابط الاجتماعية المتشددة في رمضان ، وهو صراع غالبا ما ينتهي خلال هذا الشهر إلى هدنة لدى الكثيرين ، في انتظار خروج الشياطين من سجونها لتعانق حرية وساوس النفس مشعلة بذلك أشواطا جديدة من الجور و الفجور بعيدا عن وخز الضمير الديني أو الخوف الاجتماعي الذي كان يستبد بهم خلال الفترة الماضية .
و الدليل على أن الأمر ليس إلا نارا تحت رماد هو أن قطع الكثير من العادات السيئة كالتحرش الجنسي و تعاطي الكحوليات قد ترافقه أعراض تصريفية جانبية لا تقل ضررا على المحيط الاجتماعي ، فنقصان مادة نيكوتين هذه العادات في نفوس البعض ينتهي بهم إلى حالة من الهياج المستمر التي تجعل منهم كائنات سريعة الاشتعال لأتفه الأسباب ، تتلاشى طلاقة الشخصية و تسيخ بشاشة الوجه ، و تحل محلها أنفاس سريعة متقطعة و حنق عدواني شديد ، و كأن الأمر تعبير عن احتجاج داخلي على تقلص مساحة الحرية الشخصية بسبب اشتداد الوازع الديني من جهة، و بسبب الرقابة الاجتماعية التي تشتد هي الأخرى في شهر الصيام ، فما كان المجتمع يتساهل بشأنه في السابق لم يعد كذلك خلال هذه الأيام المباركة ، لنلاحظ مثلا تراجعا لمنسوب التحرش الجنسي في شوارعنا أو على الأقل حرصا من مدمنيه على تهذيبه بعبارات تغزل أقل حطا من كرامة المرأة ، باستلهام عبق المعجم الديني أحيانا أو بالتهكم على حالات التحول الفجائية لنساء من اللباس الأحمر الفاتن إلى اللباس الديني المحتشم الذي لا يفلح في نظرهم في طمس معالم الماضي القريب الحافل بالطيش و الاستهتار الاجتماعي ,
قد نسخط فعلا على هذا النوع و نرى في تحولهم الفجائى إلى حلة الإيمان المكتراة فرصة للتنكيت و السخرية ، لكن هنا نتساءل هل هذه الإدانة الاجتماعية المسبقة الجاهزة نافعة و صائبة أم أنها ليست إلا تعبيرا مرضيا عن بحث الفرد عن متعة الإحساس بالسمو الأخلاقي و الديني بالمقارنة مع ذلك الآخر الغارق في الآثام و المعاصي، و كأنه يريد أن يكرس الفارق ليبقى هو وحده المتقي و هو وحده الفائز بجنان فردوس الرحمان ؟ نعم إن هذه المسارعة المستمرة إلى الاتهام و الإدانة لهي واحدة من أعراض ثقافة التكفير المختبئة في نفوس الكثير منا إلى درجة نكاد نغلق فيها باب التوبة و نحكم على العاصين بالبقاء الأبدي على حالة التشرد الأخلاقي و الديني ، أي أننا عوض أن ننظر إليهم بشفقة و نستغفر لهم و لأنفسنا ننغمس في الاحتفال بانحرافهم و نمعن في السخرية منهم متناسين أنه كان ممكنا أن نكون نحن هم بقليل من الحظ بسبب ظروف أفلتنا منها القدر بملمترات قليلة ، متناسين أيضا أنه يمكن أن يأتي حين من الدهر تنقلب فيه الموازين و نصير نحن أكثر منهم فسوقا و ضلالة بحكم ظروف قد تأتي و لا نحسب لها أي حساب . و هكذا فإن أي فرملة فجائية لسلوكيات طائشة و لو بشكل مؤقت تبقى مسألة مفضلة وجب تشجيعها خصوصا إذا كانت عن قناعة دينية ناتجة عن الإحساس بتضاعف المسؤولية الدينية خلال أيام شهر الصيام و إن لم يكن هناك بالطبع نص قراني يثبت هذا التضاعف و يتوعد بعقاب أشد .
وبالمقابل لا بأس من تصويب سهام النقد الايجابي إلى القناعات الاجتماعية الشعبية التي تجعل من رمضان طقسا احتفاليا يعبد و يهاب كإله في حد ذاته ، أي أننا نجعل منه هنا عادة اجتماعية تستحق التقديس أكثر مما نؤمن به كواجب ديني نتوخى بواسطته التطهر من الذنوب و التقرب إلى الخالق عز وجل ، مما يلحق مع الوقت ضررا بالغا بالتصور الصحيح للدين باعتباره تنزيلا سماويا ينبغي أن يبقى خالصا نقيا من شوائب التراث الذي يمكن أن نعدله أو نتخلى عنه مادام اجتهادا إنسانيا يمكن أن يروق لنا في وقت مثلما يمكن ألا يروق لنا في وقت آخر ، وذلك على عكس الدين الذي يحتفظ بسماويته و قدسيته الصالحة لكل زمان و مكان بشكل لا يحتمل التبديل أوالتعديل.
إذن فكل كف عن السلوكيات غيرالأخلاقية احتراما للدين في حد ذاته يبقى أفضل من لا شيء ، لكن الكف عن هذه السلوكيات رياءً و ابتغاءً لوجه المجتمع فذلك يخرب الأساس الضروري للدين وهو حرية الاختيار و صدق الاعتقاد مع الخالق دون أي تدخل اجتماعي أو سياسي ، بعبارة أخرى يمكن أن نقول اختصارا و انتصارا لحرية الدين في هذا المقام أن الله وحده هو الحسيب و الرقيب على شعيرة الصيام ، ولصائم واحد بتدين صادق خير لنا من ألاف الخجولين أو الخائفين المنساقين مع العادات الاجتماعية دون أي تأمل أو تفكير ، والذين يمارسون على الدين و على أنفسهم من حيث لا يشعرون أبشع عمليات التزوير التي يمكن أن تحصل لإرادة الفرد عندما تفتك به العادة و تسلبه جوهر الإيمان والعبادة .