أصبحت تثير مسألة التعويضات الكبيرة والامتيازات الواسعة التي تغدقها الدولة على من تسميهم بخدامها الكبار نقاشا حادا في الأوساط الإعلامية الجماهيرية، إذ يعتبر الساخطون الأمر ظلما حارقا بحق أبناء الشعب، بينما يعتبره المسؤولون حقا يشرعنه القانون ولا يحق لأحد الاعتراض والاحتجاج على مثل هكذا امتيازات مادامت صادرة من المؤسسات التي انتخبها الشعب أو التي اعترف بها ضمنيا من خلال موافقته بالأغلبية على الدستور المعتمد في البلاد. وهكذا نتساءل هنا: هل القضية فعلا تنطوي على كثير من الظلم أم أن هناك مبالغة إعلامية و شعبية في النظر إلى كل ما يستفيد منه مسؤولو الدولة ؟
حرفيا ومن الناحية المنطقية، مادام الشعب قد اختار مؤسسات أو وافق عليها بسلوك السكوت فإنه ما عليه إلا أن ينضبط لقراراتها حفاظا على الأمن العام وعلى الاستقرار، إلا أنه مع ذلك يقول المنطق الديمقراطي غير الحرفي أنه يبقى من حق الشعب الاحتجاج السلمي والتعبير عن السخط كلما انحرفت هذه المؤسسات عن أهداف خدمة المواطن لتنغمس في أهواء إرضاء الذات بكل ما تجده تحت يدها من أوراق قانونية، وهكذا نرى الآن مثلا موجة سخط جماهيري على إجراءات مستفزة تزيد من مساحة الثراء التي ينعم بها كبار المسؤولين في وقت ترتفع فيه شعارات التقشف والحكامة الجيدة، وفي وقت تذهب فيه الدولة إلى فرض نظام تقاعد مجحف بحق الطبقة العاملة .
الخطير في الأمر هنا هو أن كل شيء بعجيبه وغريبه يجري في إطار القانون: الموظفون يرفضون نظام التقاعد ومع ذلك وافق البرلمان باسم الشعب و باسمهم و باسم نقاباتهم على هذا النظام لتتم سرقة أجرتهم و أعمارهم بشكل قانوني،وامتيازات الوزراء و البرلمانيين كل الشعب يستنكر ضخامتها لكن مع ذلك مازلوا يستفيدون منها بل ويريدون الزيادة فيها، وذلك بشكل قانوني بالطبع، والبقع الأرضية وما شابهها من امتيازات الريع لا تصدر إلا عن مؤسسات يعترف بها الشعب من خلال موافقته على الدستور، ليكون بذلك هذا التفويت مثل كل ما سبق قانونيا مئة بالمئة .
ببساطة إن الشعب يذبحونه بشكل قانوني و يسرقونه بشكل قانوني ، فنحن من انتخبنا النقابات ونحن من انتخبنا البرلمانيين و نحن من أعطينا جل عقلنا لمباريات الكرة و للمسلسلات ، و نحن من لزمنا جريمة الصمت …، و لكن الآن إذ نحتج في هذا الوقت المتأخر بدأنا ندرك حجم الحيف الذي يطالنا، فصرنا نناقش هذا القانون الذي يسمى قانونا في عقر داره، هل القانون هنا هو المشروعية ؟ أم أنه قد يصير في أحيان كثيرة ظلما بلباس رسمي يجعل من السارقين مجرمين محترمين يحملون اسم برلمانيين أو وزراء أو خدام دولة ؟
يقول بعضهم نحن لا نسرق و لو درهما من خزينة الشعب لكنهم في نفس الوقت نجدهم يشرعون امتيازات جديدة خاصة بهم، و يصمتون عن أخرى، جاهلين أو متجاهلين أن ضخامتها وتجاوزها حد المعقول يعد سرقة لأموال الشعب بطريقة علنية مغلفة بما يسمى قانونا. مما يسقطهم في جريمة أخلاقية عن سبق إصرار أو من حيث لا يشعرون، كما أن إخلالهم أيضا بالوعود الانتخابية العريضة يجعل من الدراهم التي يتقاضونها دراهم مسروقة حرام، ولا مقدار حلال فيها إلا بمقدار ما التزموا به من وعود وتعاقدات شعبية مع المواطنين .
لسنا هنا من أجل الإفتاء و لا من أجل الهجوم على حزب بعينه و لكن فقط من أجل مناقشة من يدافع عن طمع المسؤولين الكبار باسم القوانين والاحتكام للمؤسسات، لأن الأمر خطير أكثر من الخطورة التي يعتقدها الساخطون، فالمشكلة الكبيرة هنا ليست تكمن في تلك الملايين التي يستفيد منها المسؤولون، ولكن المشكلة الحقيقية هي ما ينجم عن هذه الاستفادة من تراخ في تحمل المسؤولية تجاه المواطنين، إذ يصير المسؤول في هذه الحالة يعيش في غرف نعيم مكيفة بعيدا عن حرارة هموم الشعب، بل ويصبح مدمنا على الامتيازات إلى درجة أنه يمكن أن يحرق كل القيم الأخلاقية وكل التعاقدات مع الشعب من أجل البقاء منعما بالكرسي، ولعل ذلك ما يسعى إليه بالتأكيد من يحاول إرشاءه بهذه الطريقة الذكية غير المباشرة، حيث يسقط في الإدمان السلطوي ويورط تدريجيا في عالم الإغراءات التي تعمي في الغالب بصيرة من يقع فيها إلا من رحم ربك .
وهكذا يمكن القول أنه لا يؤلمنا أن نرى مسؤولا حكوميا يستعمل سيارة المرسيدس أويشتري لنفسه فيلا جميلة، و لكن ما يؤلمنا حقا هو أن يفعل ذلك في الوقت الذي يتنكر فيه لأهم التزاماته تجاه المواطنين و يمعن في إصدار تشريعات تضر بمصالحهم، بل و يذهب بعيدا للدفاع عن امتيازات غير معقولة يستفيد منها كبار المسؤولين أو يصمت عنها بشكل مريب، لنصير في الأخير أمام حالة من الكريساج القانوني الناعم الذي يستنكره كل الشعب ومع ذلك يقال لنا هذا ما قررته المؤسسات التي اختارها الشعب . مما يؤكد مجددا أننا نعيش حالة انفصام حقيقية بين ما يريده الشعب و بين ما يقرره من انتخبهم ، فنستنتج يقينا أن الريع هو بمثابة تلك السرقة القانونية أو بمثابة تلك الرشوة القانونية التي تلين الصلب و تنقع العنيد لتعبد الطريق أمام استمرار دولة التعليمات، عوض انبثاق دولة الإرادة الشعبية الحقيقية .