يذهب فلاسفة المعرفة (وعلى رأسهم گاستون باشلار) إلى اعتبار البحث العلمي سجالا ضد الخطأ، والحقيقةِ المحصلة تصحيحا للخطأ الذي يحظى من هذا الباب بوضع “إبستمولوجي” محرك ومفيد. وعليه، وحدهم المؤدلجون والطبوليون (كما يسميهم الإمام الغزالي) يدّعون لأنفسهم العصمة والمنأى عن الخطأ.
أما كبار المفكرين والعلماء فمنهم من يدركون أخطاءهم وهم أحياء، فيصوبونها؛ ومنهم من يعولون على الخلف للقيام بذلك، شعارهم قولة عمر بن الخطاب: “رحم الله عبدا أهدى إلينا مساوينا”. وفي هذه المقالة نمثل بعلمين من المصف الأعلى: ابن رشد وابن خلدون (التفاصيل).
1- مع ابن رشد
لا مراء أن الناس ليسوا سواسية في التأدي إلى الإدراك الجيد والفهم الثاقب، لكن لماذا عند ابن رشد يكون تحصيل الموافقة بين الشريعة والحكمة والتأويل الحق عموما حكرا على من بات يسميهم “أهل البرهان”، الذين “لا تنجلي معاني الباطن إلا لهم”، أو كما لو أن الآية القرآنية ﴿وإنه لقول فصل وما هو بالهزل﴾ نزلت فيهم؟ وجوابه هو أنهم “الراسخون في العلم” كما يستقيه، حسبما سنرى، من قراءته المعيبة لآية قرآنية. ومن هذا المنطلق الاعتباطي تشرع آلته “البرهانية” في إقصاء الفقيه والمتكلم من دائرة التأويل الحق، إذ أن قياس الأول “قياس ظن” وقياس الثاني “قياس جدل” (أو سفسطائي)؛ فكلاهما، عنده، كما يقرر، لا يفيد العلم ولا اليقين، ولا يفضي إلا إلى تمزيق المؤمنين فرقا ومذاهب(!).
إن الجدير بالإظهار وحتى بالاستغراب هو طريقة ابن رشد في قراءة وتأويل بعض الآيات التي لا يأتي بها عرضا في نصه أو لمجرد الاستئناس، بل يقيم عليها شوامله ويبني “براهينه”. فبدءا، الآيات القرآنية الداعية إلى النظر والتفكر والاعتبار وهي، خلافا لما يقوله، محصية، يرى صاحبنا أنها سند شرعي لطلب “الحكمة”، أي الفلسفة “البرهانية”. أما تأويله المعيب المتعسف للآية 7 من سورة آل عمران، فقد شابه الوقف المعروف عند ﴿لاتقربوا الصلاة…﴾ أو ﴿ويلٌ للمصلين…﴾، وكان فعله بالآية مشاكلا لفعل خصومه بما رواه عن بعض الفلاسفة: “قد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة»، فأخرجوا الكلام عن طوقه، وسعوا بكاتبه إلى السلطان المنصور، كما في القصة أعلاه؛ أما وقف ابن رشد الاعتباطي فقد جعله يقرأ تلك الآية ﴿وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم﴾، بيد أن أغلب التفاسير المعروفة لا تعطف كلمة “الراسخون” على الله بل تثبتها فاعلا لفعل “يقولون”، كما في تتمة الآية، ﴿والراسخون في العلم يقولون آمنا به﴾ الآية، وهذا ما يقتضيه النحو والسياق الكلامي، أي قانون لغة العرب الذي يشرط ابن رشد التأويل به في مواضع أخرى. وهذا القانون يحسم إذن سلبا في قضية تجويز الوقف عند “الراسخون في العلم”، وبها يكون هذا الوقف في حكم فقهاء القراءات “وقفا قبيحا”. وهكذا يبطل، مثلا، كلام ألان دي ليبيرا التبريري في الموضوع.
والغريب أن متأولنا بنى على تلك القراءة الخاطئة مزاوجة بين البرهان والإيمان، فعنَّ له القول عن الراسخين في العلم: “وقد وصفهم الله بأنهم المؤمنون به، وهذا إنما يحمل على الإيمان الذي يكون من قِبل البرهان، وهذا لا يكون إلا مع العلم والتأويل”. والأغرب من هذا أن أبا الوليد كان واعيا بما يفعله من تحريف في حق تلك الآية، بدليل قوله من جهة: “لأن الاختيار عندنا هو الوقوف على قوله تعالى ﴿والراسخون في العلم﴾”؛ ومن جهة أخرى في المسائل العويصة المتشابهة: “إن الوقف يجب ههنا فـي قوله تعالى: ﴿وما يعلم تأويله إلا الله﴾”! وبنفس الأسلوب الازدواجي نراه أيضا يذهب إلى أن في القرآن ثبتَ “الطرق الثلاث الموجودة لجميع الناس” (البرهان والخطابة والجدل)، وذلك في الآية 125 من سورة النحل: ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن﴾، فيقرن الحكمة بالبرهان ويجزئ السياق، بيد أن أغلب التفاسير مجمعة على أن الحكمة في الآية إنما هي الكتاب والسنة. وأخيرا وليس آخرا، لا ينجو ابن رشد حتى من بعض الإضطراب، كفعله في معرض هجماته على الأشاعرة، إذ يعيب عليهم كونهم يؤولون آيات الإستواء، في حين أنه لا يمتنع عن تأويل الآية الأخيرة ﴿ثم استوى إلى السماء وهي دخان﴾ التي لها، على أي حال، علاقة بالاستواء، وإن كان يسخرها أساسا للتدليل على أن ظاهرها يقتضي “أن السماوات خلقت من شيء”، مخالفا ليس فقط فكرة الخلق من عدم في الأديان التوحيدية وإنما أيضا تعريفَ الابداع، كما نجده حتى في رسائل الكندي الفلسفية، أي “إظهار الشيء عن ليس”…
2- مع ابن خلدون
في مشروع ابن خلدون الضخم ما كان لقدر من الأخطاء المعرفية إلا أن يتسرب هنا وهناك. فعلاوة على بعضها في الطبيعيات وعلم الفلك [انظر مثلا ما يقوله عن كوكب الشمس ككوكب مضيء لا مزاج له]، يمكننا أن نشير إلى جعله المشائين أتباعا لأفلاطون [والصحيح هو أرسطو] وخلطه بين ليكيون [ليسي أرسطو] والرواق [stoa استووا، باب لقاء الرواقيين stoïciens تلامذة زينون]، ثم بين “سقراط صاحب الدن” [كذا في النص] وديوجين [والعكس هو الصحيح]، الخ. لكن التغاضي عن غير هذه الأخطاء وما هو من صنفها يصبح صعبا أمام قيام النص الخلدوني أحيانا على ازدواج التركيب العلمي والعقدي. والمطلوب دوما هو تجلية التباساته وارتباطاته ليس بقصد بيداغوجي فحسب، وإنما أيضا لغاية معرفية. ذلك لأن الموضوعية ليست هي القاعدة السائدة باستمرار عند مؤرخنا. فمن حين لآخر يختلط بها شعوره الديني، فيحدث لديه تمييزات وتقسيمات يجب أن نكون على بيّنة منها، ولا أدل على ذلك، مثلا، من كلامه في اختلافات الفرق المسيحية في موضوع المسيح، حيث يجزم قائلا في فقرة محذوفة من الطبعات العربية إلا في واحدة [!]: “ولم نر أن نسخم أوراق الكتاب بذكر مذاهب كفرهم، فهي على الجملة معروفة، ولم يبق بيننا وبينهم في ذلك جدال ولا استدلال، إنما هو الإسلام أو الجزية أو القتل”. هنا أيضا تسبق العاطفة الدينية التحليل اللامتحيّز وتطغى عليه. أمثلة أخرى مخيبة للظن منها:
– نزوع ابن خلدون إلى الدفاع مطولا وبحجج ضعيفة في الغالب عن طهرية الخليفة هارون الرشيد وتعبده الفضيلة والتقوى، مع أنه يقر أن الإقبال على الدنيا تفشى منذ القرن الثاني، وهذا ما يتساوق مع طور الترف والبذخ ، كما في نظريته العامة من جهة، وتدل عليه ما بلغته الدولة العباسية من حضارة خلال هذا العهد، من جهة أخرى.
– غلوه في الانتصار للأب الروحي والماهد للدولة الموحدية، المهدي بن تومرت، إلى حد التعليق على ادعائه انتسابه إلى أهل البيت: “لا دليل يقوم على بطلانه”؛
– كونه لم يتوفق دائما في القفز فوق عصره، بل إنه حينما مارس التأريخ في كتاب العبر لم يستطع بوجه عام الانفكاك من ثقل أطر عصره المعرفية، ونحن إذ نؤكد على هذا لا نكتفي بتبني رأي يذهب إليه عدد من المتخصصّين، وإنما نعبّر عن حكم متولّد من شعور بالضجر ينتاب القارئ عند غوضه في أجزاء ذلك الكتاب، لا سيما منها المتعلّقة بالمشرق الإسلامي، وهو أمر لا يلزم أن نستغربه، نظرا لانقسام الكتابات الخلدونية إلى خطاب عضوي مركّز وخطاب موسوعي مشتت. إن كتاب العبر، في آخر المطاف، لا يمكنه أن يصلح كأداة عمل فعّالة إلاّ في حقل الغرب الإسلامي، وبالأخص في القرنين السابع والثامن للهجرة اللذين يعرفهما مؤرّخنا معرفة أدق وأفضل.
– تعبد ابن خلدون بعصبية النسب أطلعه على أشياء وحجب عنه أخرى. وما حجبه كان من صعيد ما لا يحسن بالمؤرخ تحقيره أو إهماله، منه على سبيل المثال حقيقة التمرّدات غير الموفقة، وحقيقة الثوّار ودعاة المعروف من المتصوفة، الذين خصهم بأفدح الأوصاف القادحة المسفهة (مجانين، ملبسون، صفاعون، أهل زعارة…)، فكان في هذا الموضوع المخصوص يقف مع المتغلّب الأقوى، ويحصر التاريخ في الإخبار عمّا يكتبه منطق الغلبة والقوة، ويُبقي خارجه جماهير المغلوبين ومن لا تعضدهم عصبية.
– تقصيره في الإخبار عمن لا تعجبه سيرتهم وفكرهم، ومنه مثلا قوله المختزل جدا عن عبد الحق ابن سبعين أنه ” رحل من بلده مرسية إلى تونس”، قافزا على إقامة الرجل مدة عقد ويزيد في سبتة التي ألف فيها بد العارف والكلام على المسائل الصقلية والرسائل، وهي أهمُّ نتاجه وأخصبه، كما كان له فيها زواج شيق ممتع.
– إنما الأدعى إلى الإنزعاج حقا فيكمن في تلك الفتوى التي ذيل بها ابن خلدون مؤلفه شفاء السائل لتهذيب المسائل، والقاضية بتحريق كتاب ابن سبعين الرئيس بدّ العارف وأيضا فصوص الحكم والفتوحات المكية لابن عربي وكتاب خلع النعلين لابن قسي. ولا يمكن أن نلتمس لهذه الفتوى العنيفة ما يخفف عنها إلا في كون ذلك المؤلف الحاضن لها عملا بكرا فتيّا ومحكوما باستجابة صاحبه لدعوة سياسية إلى مناهضة فشوّ التصوف الشعبي والزوايا، بحيث يقرر شروط إمكان كل مريدية داخل أطر التعليم والتربية السنية السائدة.
ختاما، إن ما ذهبنا إليه في هذا المقال ليعارض كل أنواع التحنيط في شأن مؤرخنا المفكر، سواء كان بقصد تقديسه أو سعياً إلى إقباره، وذلك اهتداءً بما نبهنا إليه هو وأوصانا به، إذ قال: “وأنا من بعد موقن بالقصور، بين أهل العصور، معترف بالعجز من المضاء، في مثل هذا القضاء، راغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتسعة الفضاء، في النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والتغمد لما يعثرون عليه من الأخطاء بالإصلاح والإغضاء” وهذا لعمري ينسحب على ابن رشد وغيرهما من كبار علمائنا الأفذاذ.