بعد احتراق جل البلدان العربية التي ثارت في وجه طغاتها أصبحت المطالبة بالحقوق و الحريات مرادفة للخراب لدى الكثير من الناس، فرغم كل الفقر و الظلم و القمع يفضلون العيش في أمان، و يستنكرون كل محاولة لدفعهم إلى احتجاجات اجتماعية لا تعرف عواقبها، إذ قد تدخل جهات تصطاد في الماء العكر على الخط ، لتؤدي البلاد والعباد إلى محرقة لا رابح فيها و لا منتصر.
نعم إنها حكمة و عقلانية لا بد من استحضارها في التعاطي مع مشاكلنا الاجتماعية والسياسية ، لكن الخطير هنا هو أن يتم تشجيع هذه الحكمة بشكل مغرض لضمان استمرار اغتناء و نفوذ المستفيدين من الوضع الراهن على حساب الطبقات المسحوقة ، فنجدهم يجندون جيوش من الحسابات و الصفحات على شبكات التواصل الاجتماعي للتحريض على مثل هذه القناعة العمياء القاتلة لكل محاولات الضغط الاحتجاجي من أجل تغيير ما يمكن تغييره و لو بشكل نسبي..، كما أنه بالموازاة مع ذلك يتم أيضا اختراق الحركات الاحتجاجية السلمية المعقولة من الداخل ، فيتفا جأ الفرد فيها بشعارات غير واقعية مثيرة للخوف ، من قبيل المطالبة بإسقاط النظام أو من قبيل المطالبة بالانفصال ، ليقرر على عجل الخروج من الشكل الاحتجاجي و تفادي كل احتمالات الانزلاق إلى براثن الفتنة والحرب الأهلية … ، بل الأكثر من كل هذا هو أن يتم تشجيع وجوه سيئة السمعة والأخلاق لتتزعم التنظيمات و الحركات بما يخلف جوا مسبقا من عدم الارتياح لقياداتها ، و بالتالي تنفير عامة الشعب من الانخراط الفاعل في الممارسة السياسية و الحقوقية .
ثم إن التنوع العرقي الذي تزخر به بلداننا يتم للأسف استغلاله بطريقة بشعة في كثير من الأحيان لضمان استمرار شعورنا بالحاجة إلى قوة مخزنية قامعة و موحدة لمختلف الأطياف ، حيث قد يحدث – وخصوصا في بعض الأوقات الحرجة – تشجيع النعرات العرقية لا بالشكل الذي قد يقدرها على الانفصال أو هزم الدولة ، و لكن بالشكل الذي يجعل وجودها ايجابيا لضمان استمرار هذه الأخيرة في التحكم الاستبدادي في كل الشعب و لو بطريقة قامعة و ظالمة .
إذن فالحديث عن احتمال انقسام البلاد إلى دويلات حديث نجده في كثير من الأحيان ماكرا و يلوي على خلفيات سلطوية مقيتة ، كما أن هرولة البعض لرفع شعارات غير واقعية من قبيل ” الشعب يريد إسقاط النظام ” نجدها في العمق ليست إلا وسيلة يتعمدها المندسون لنسف المظاهرات المعقولة بتخويف الناس بطريقة ضمنية من سيناريو الخراب والفتنة.
و هكذا فلا ينبغي إطلاقا أن يترسخ لدينا أن المطالبة بالحقوق هي المرادف الحتمي لسيناريو الخراب و الدمار ، لأن الحلول الواقعية موجودة و ممكنة ، و من بينها بالطبع التشبت بالثوابت الضامنة للاستقرار و بالثقافة الاحتجاجية السلمية المعقولة في نفس الوقت ، قصد تغيير ما يمكن تغييره بتحديد سقف معقول منذ البداية للمطالب الشعبية ، حتى لا يتطور الموقف وتنزلق البلاد للمجهول لا قدر الله .