مرة أخرى يفعلها السيد الرئيس عبد الإله بنكيران و يخرج بخرجة كوميدية سياسية جديدة لا تشبه في نبرتها و حركاتها و لغتها إلا شخصية حديدان المحبوبة من طرف الجماهير المغربية ، قال بلغته المعهودة أن سكان البادية يكفيهم القليل ليشبعوا و يأخذوا البندير مطبلين محتفلين في آخر كل يوم بواقع حالهم الجميل ، صحيح ما قاله سيدنا بنكيران ، فقرويو اليوم أصبحوا أكثر سعادة و نشاطا لا بالانجازات الحكومية في القرى لكن بالفتح العظيم الذي حققه السيد الرئيس في تغيير صورة المسؤول الحكومي لدى المواطن ، لأنه هو الوحيد في نظرهم من يعرف كيف” يسخن الطرح السياسي” بالمصطلحات السوقية المثيرة. قرويو اليوم أصبحوا يتابعون خطب بنكيران بكثير من الفرح و الاستبشار برئيس يتحدث لغتهم و يمشي مشيتهم بعيدا عن اتيكيت السياسة و تلحيناتها الصوتية البروتكولية ، لينجح بذلك في التغلغل في قلوبهم رغم كل ما يأتي به من زيادات في الأسعار و من إجراءات لا شعبية ، إذ تباغت بعضهم و تسأله عن السيد بنكيران يرد عليك بسرعة قياسية : ” كيعجبني ” ” رجل مزيان كيضحك ” ” راجل معقول ، ماشي شفار بحال لوخرين…. “
مبروك لبنكيران إذن كل هذا الحب المجاني العجيب، نحبه كحبنا لسيجارة نعرف أنها تنخر صحتنا و جيوبنا ، نحبه و نضحك أمام الشاشة رغم كل الهموم ، هو بالفعل سياسي استثنائي بامتياز ، يعرف حتى في أوج الأزمات الحقوقية و الاجتماعية كيف يمازح جراحنا و يدغدغ جروحنا العميقة لننفجر مقهقهين غير بعيد من دمائنا النازفة ، نريد أن نستمر في الصراخ ، نريد أن نثور لكن لا نعرف كيف ذلك و هو يمطرنا بوابل من الخطابات العاطفية ، فنستسلم للضحك و “للتقشاب السياسي” و ننسى الداء و جوهر القضية ، حتى الذين يكرهونه كل الكره يهزمهم بنكته الطريفة و يحول غضبهم و تجهمهم إلى ضحك يصدح في الأجواء … نعم فالعداوة و الألم لا يفسدان للضحك قضية عند حديدان الحكومات المغربية بدون منازع.
هو نجاح خطابي إذن و إن على مستوى أهدافه السياسية لا على مستوى شكل الخطاب بالضرورة ، فمن أين لخطاباته كل هذا النجاح إذن ؟ ألا يمكن لكل السياسيين أن يحذوا حذوه و يحققوا نجاحا مماثلا أو أكثر ؟
إن الخطاب السياسي عند السيد بنكيران على بساطته و سهولته نجده ينضبط علميا عن وعي أو عن غير وعي لاستعارات الخطاب الايديلوجي المحترف، التي تتنوع لديه عموما بين ما هو لغوي شعبي و بين ما هو ديني مقدس ، فعندما يتكلم مع المغاربة و يشرح لهم أعقد القضايا الاجتماعية و السياسية بلغة العجائز يذوب تلك المسافة المفترضة بين الحاكم و المحكوم ، إلى درجة يعتبر فيها هذا الأخير نفسه متماهيا متساويا مع الحاكم، مما لا يدع مجالا للمواجهة أو مجالا للجسم الشعبي كي يطلق مضادات الأجسام الغريبة أثناء عمليات التفكير و رد الفعل ، أي أن القرار هنا صادر منه و موجه إليه في نفس الوقت ، مادام الرئيس في هذه الحالة واحد من أبناء الشعب لا أقل و لا أكثر ، كما أن استعاراته المتواصلة للمعجم الديني و هو يقدم على قرارات غير شعبية تزيد بطبيعة الحال من مهابته لدى الكثيرين ، باعتباره رجلا صالحا لا يمكن أن يبتغي عن إصرار فسادا في الأرض .
و هكذا فإن السيد عبد الإله بن كيران يشكل رجل المرحلة بامتياز ، ما أن يسبح و يبسمل و يحمدل و يتحدث بقاموسنا اليومي حتى نصير لكل ما قد يمليه قابلين ليس لنا إلا الإنصات و الانضباط ، فمن لغا لا إسلام له و من لغا لا وطنية له …
أما رجال السياسة الآخرون فحتى و إن حاولوا تقليده أكيد لن يفلحوا ما لم يطابق عندهم التصرف الشعبي و الديني حقيقة عيشهم اليومي، فعلى سبيل المثال نجد أن السيد حميد شباط الأمين العام لحزب الاستقلال استعمل في بعض من خطبه تهليلات دينية من قبيل : ” الله اكبر” ” الله أكبر ” و غيرها من مفردات المعجم الديني ، إلا أنها بدت في عمومها عبارات متكلفة بعيدة جدا عن واقع الحال ، كما أن استعمال لغة الشعب البسيطة عند السياسيين لن يكون ناجعا أبدا إلا إذا طابق القول في بساطته نمط عيش القائل ، مثلما نجده عند السيد بنكيران الذي مازال مصرا على البقاء في محل سكنى عادي بحي الليمون بالرباط . إذن فكل تقليد له في طريقة الخطاب فقط لن يجدي نفعا في التأثير في الناس و سيصير في الأعين تمثيلا مفضوحا ليس إلا .
لسنا أبدا ننتصر للسيد الرئيس في طريقة خطابه و لا لمنهجية ” الحديدانية السياسية ” ، لكن الاحتكام إلى مزيد من الخبرة العلمية الخطابية يثبت بلا شك تفوق الرجل ، في الوقت الذي تبقى فيه الفعاليات الحزبية الأخرى مدعوة إلى الاجتهاد في تطوير خطابتها لا من أجل دغدغة الرأي العام و استغلاله ، لكن من أجل إنتاج خطاب سياسي يفهمه الجميع و يعكس حقيقة الأمور في البلاد بشفافية و مصداقية ، فنحن لا نريد بالطبع خطبا بلاغية بديعة خلابة و لا عبارات منمقة راقية و نحن نتحدث عن أوضاع مزرية منحطة ، كما أننا لا نريد بالمقابل سياسيين يخاطبوننا بلغتنا الشعبية من دون مكابدة حقيقية لفرض حلول تغير واقع الحال أو على الأقل تحترم جروحنا النازفة ، بل الأهم و الأولى عندنا من كل هذا هو ألا يتحول الخطاب السياسي برمته إلى وسيلة تبرير الواقع بدل السعي العملي إلى تغييره نحو الأفضل ، مثلما جاء ضمنيا على لسان السيد الرئيس الذي صرح فاضحا من غير أن يقصد حقيقة و خلاصة الفعل السياسي في بلادنا بقوله أن دور السياسيين يتمثل ببساطة في جعل الفئات الشعبية القروية تقتنع بالأوضاع التي هي عليها ، و بالفعل صدق فليس له و لا لبقية السياسيين الذين بجانبه إلا أن يلعبوا دور الإلهاء و الإصغاء من أجل امتصاص الغضب الشعبي و خلق أجواء من النقاش الفرجوي المتواصل ، إذ يتناطح كل مرة جديان فيضحك كل الشعب من طنجة إلى الكويرة ، و تعم البهجة كل البيوت المغربية ، و يُشيِّد لنا مرة أخرى سيدنا الفنان من رغوة الكلمات العجيبة ألف فقاعة خبزجديدة، يكفي أن نلوكها فقط حتى تنتفخ أمعائنا بمزيد و مزيد من الضحك … ، و نزداد اقتناعا بأن القناعة سلاحنا الفتاك من أجل التعوذ من وساوس التغيير، و نأخذ كل ليلة الفيسبوك أو البندير لنضحك مع سيدنا و مولانا حديدان ، فذلك بطبيعة الحال أضعف الإيمان …