ما أن ينتهي الملك من تلاوة خطبه حتى تبدأ الأحزاب السياسية و منابرها الإعلامية في التهافت على اقتطاع فقرات دون سواها من الخطاب الملكي ، لتبين للرأي العام أن خصمها السياسي هو المستهدف بها ليصحح سلوكه السياسي ، أو لتذهب أبعد من ذلك لتبرهن بطريقتها الخاصة على أن بعضا مما ورد في الخطاب ما يزكي مشاريعها و يؤكد نبوءاتها السياسية و توجهاتها الفكرية .
هو تهافت يبين ضعف الثقة في النفس من جهة ، كما يبين الفقر الحجاجي الذي تعاني منه جل أحزابنا ، إذ لا تكلف نفسها عناء الحجاج العملي العقلاني ، فتسارع إلى أن تحتمي في مقارعاتها السياسية و الفكرية بفقرات ” مقدسة ” من الخطب الملكية ، كي تفحم المعارض و تخرس المتجرأ ، و تفوز في النزال بالضربة القاضية التي لا تقبل التشكيك أو الاستئناف . نعم للملك هالته و سلطته الدستورية و الرمزية ، لكن أن تتسابق منابر الأحزاب بهذا الشكل على مضامين الخطاب لتمخضها مخضا و تعصرها عصرا عساها تقطر من بعض محكمها أو من بعض متشابهها ما يقوي مشروعها السياسي و ينسف مشروع الآخر ، لا يمكن اعتباره إلا قرصنة بغيضة و تعسفا واضحا على الخطب الملكية التي لا يمكن أن تجزأ أو تربط بشخص واحد أو بحزب معين .
إن سلوكا ما لما يستنكره الملك ، فهو يستنكره في عمومه سواء كان مرتبطا بفلان أو علان ، و سواء أكان هذا السلوك واقعا ماثلا يشتكى منه أو واقعا مفترضا يحذر منه ، أي أنه مادام لا يسمي الشخص باسمه أو الجهة بعينها ، يبقى التأويل هنا منطقيا مفتوحا على معنيين كثر، بشكل يجعل الخطاب الملكي فلسفة سياسية عامة لا فرصة تواصلية للمك كي ينفس عن غضبه و يقرع لهذا الحزب أو ذاك .
صحيح أن الخطب الملكية لها على سبيل التشبيه “أسباب نزولها ” ، أي أن لها مستنداتها الواقعية الراهنية المستجدة ، إلا أنه مع ذلك تبقى توجيهات عامة و تنبيهات شاملة لكل الأطراف ، لأن الملك لا تعوزه بالطبع القنوات التواصلية القانونية لتنبيه المخالفين بشكل مباشر ، و إن كان من الممكن أن يفترض البعض أنه بتلك الرنة الخطابية القريبة من التوبيخ أحيانا ومن الإنذار أحيانا أخرى يحاول أمام شعبه البرهنة على حرصه، و إبراء ذمته ، و إقامة الحجة على الجميع بشكل علني و مباشر.
وهكذا فالخطب الملكية وهي تنتقل من التوجيه العام إلى الاقتراب من ملامسة مسائل سياسية دقيقة تصير أكثر عرضة للاستغلال السياسي أو لسوء الفهم لدى كثير من فئات الشعب ، ليصبح مفضلا أن تكمل هذه الخطب التدقيق و تحكم العبارات وتسمي أكثر الأشياء و المسميات ، بشكل لا يدع مجالا للذين في قلوبهم زيغ ليركبوا على المتشابه من الخطاب ، و يبتغوا به الفتنة السياسية ويقولوا فقرات ما لم تقل ، أو يعزلوا بعضها عن بعض كي تتماشى وأهوائهم السياسوية العارضة التي لا تمت بصلة إلى المصلحة العليا للوطن .