د. عبدالله أحمد جاد الكريم حسن
تطوُّر اللغة أمر أصيل في العربية، وهو جزء من عظمة العربية، وقدرتها على التواصل الحضاري، عبر امتدادات الأجيال، بطرق أصيلة أيضًا؛ مثل التعريب، بإدخال الكلمة الأجنبية في الشكل الهندسي الصرفي للكلمة العربية، وإلباسها الثوب العربي بالصوت العربي، والبناء الصرفي العربي المُقعَّد، وغير ذلك من وسائل تنمية اللغة العربية المعروفة التي ذكرناها سلفًا.
ويرى الدكتور رمضان عبدالتواب أن: “اللغة كائن؛ لأنها تحيا على ألسنة المتكلمين بها، وهم من الأحياء؛ وهي لذلك تتطور وتتغير بفعل الزمن، كما يتطور الكائن الحي ويتغير، واللغة العربية الجاهلية ليست بِدْعًا من اللغات، فهي حلقة في سلسلة حلقات طويلة من التطور والتغير؛ أي: إنها لم تكن كما يتخيل بعض الناس، بصورتها التي رُوِيَت لنا، منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها”[1].
ويقول الدكتور كمال بشر: “إن جمود اللغة وتخلفها، ونموها وازدهارها، كل أولئك يرجع أولاً وآخِرًا إلى وضع أهليها، وإلى نصيبهم من التعامل والتفاعل مع الحياة، وما يجري في العالم من أفكار وثقافات ومعارف جديدة ومتنامية، فإن كان لهم من ذلك كله حظ موفور، انعكس أثره على اللغة، وإن قلَّ هذا النصيب أو انعدم، بقيت اللغة على حالها دون حراك أو تقدم، اللغة لا تحيا ولا تموت بنفسها، وإنما يلحقها هذا الوجه أو ذاك بحسب الظروف والمُلابسات التي تحيط بها، فإن كانت الظروف فاعلة غنية بالنشاط العلمي والثقافي والفكري، كان للغة استجابتها الفورية، ورد فعلها القوي، تعبيرًا عن هذه الظروف، وأمارة على ما يموج به المجتمع من ألوان النشاط الإنساني، وإن حُرِمت اللغة من هذا التفاعل ظلت على حالها، وقدَّمت للجاهلين فرصة وَصْمِها بالتخلف والجمود، في حين أن قومها هم الجامدون المتخلفون”[2].
ولقد لمسنا أن اللغة الإنجليزية انتشرت على حساب العربية في كثير من البلدان، بدعوى أن اللغة العربية لغة غير علمية – وقد ذكرنا ما يدحض ذلك في المبحث السابق – والناطقون باللغة الإنكليزية أنفسهم يثبتون غير ذلك، فهذا صمويل هنتغتون يثبت في كتابه “صدام الحضارات” أن القول بعالمية اللغة الإنكليزية ما هو إلا وهم كبير، وخلص إلى القول: “إن لغةً تعـد أجنبية لدى 92% من سكان الأرض لا يمكن أن تكون عالمية”[3].
ومن الطريف ما ذكره محمد الخضر حسين: “كتب “جون فرن” قصة خيالية بناها على سُيَّاح يخترقون طبقات الكرة الأرضية حتى يصلوا أو يدنوا من وسطها، ولما أرادوا العودة إلى ظاهر الأرض بدا لهم هنالك أن يتركوا أثرًا يدل على مبلغ رحلتهم؛ فنقشوا على الصخر كتابة باللغة العربية، ولما سئل “جون فرن” عن اختياره للغة العربية، قال: إنها لغة المستقبل، ولا شك أنه يموت غيرها، وتبقى حية حتى يُرفع القرآن نفسه”[4].
وقال المستشرق الألماني يوهان فك: “إن العربية الفصحى لتدين حتى يومنا هذا بمركزها العالمي أساسيًّا لهذه الحقيقة الثابتة، وهي أنها قد قامت في جميع البلدان العربية والإسلامية رمزًا لغويًّا لوحدة عالم الإسلام في الثقافة والمدنية، لقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يُقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر، وإذا صدقت البوادر، ولم تخطئ الدلائل، فستحتفظ العربية بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية”[5].
ويتنبأ علماء اللغة في العالم بأن مستقبل كثير من اللغات مهدد بالانقراض والاندثار، كما حدث قديمًا مع كثير من اللغات الميتة بعد حياة قديمة، وأن قلة من اللغات هي التي ستبقى في المستقبل، وتشير الدلائل إلى أن هذه اللغات المتوقع بقاؤها، لن تكون إلا من ضمن لغات الأمم القوية التي تشغل الجزء الشمالي من الكوكب الأرضي، في أمريكا وأوروبا والشرق الأدنى والهند والصين، وخاصة منها اللغات العالمية، وفي مقدمتها اللغة الإنجليزية، تليها الفرنسية، ثم اللغات الأربع الباقية: العربية، الإسبانية، الصينية، الروسية، بمنازل متقاربة، إضافة إلى ما يتراوح بين 70-200 لغة دونها في القوة؛ كالبرتغالية، والألمانية، والإيطالية، ثم اللغات الإسكندنافية، وهي متفاوتة جدًّا فيما بينها في القوة، أما حوالي6500 لغة؛ أي: أزيد من 96% من لغات العالم، فهي تتآكل باستمرار، وتتقهقر أمام غزو اللغات القوية، وخاصة منها اللغة الإنجليزية، التي إذا سارت الأمور على ما هي عليه اليوم، فمن المحتمل جدًّا أن تبتلع وحدها هذا الكم الهائل من اللغات، الواحدة تلو الأخرى، بل وأن تبتلع بعد ذلك اللغات القوية العالمية، التي قاومت على مدى آلاف السنين[6].
ويأتي رأي الأديب الإسباني “كاميليو جوزي سيلا” – وهو الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1989م – ليثير كثيرًا من الجدل في الأوساط الغربية، ولا سيما دعاة العولمة، ومفاد هذا الرأي أن لغات العالم تتجه نحو التناقص، وأنه لن يبقى إلا أربع لغات قادرة على الحضور العالمي، هذه اللغات هي: الإنجليزية، والإسبانية، والعربية، والصينية، وقد بنى “كاميليو” رأيه على استشراف مستقبلي ينطلق من الدراسات اللسانية التي تعاين موت اللغات وتقهقرها واندثارها[7]، ويتخذ عبدالسلام المسدي من رأي “كاميليو” منطلقًا لتناول القضية، إذ يُؤَمِّل أن تكون العربية واحدة من اللغات العالمية التي سيكتب لها البقاء، ويرى أن اللغة العربية قد تشكل في طموحاتها المستقبلية أخطارًا حقيقية على دعاة العولمة الثقافية، وسياساتهم التهميشية، وذلك مردود إلى جملة أسباب، هي[8]:
1. احتمال تزايد الوزن الحضاري للغة العربية في المستقبل المنظور، فضلاً عن البعيد، فاللسان العربي هو اللغة القومية لحوالي 270 مليونًا، وهو يمثل إلى جانب ذلك مرجعية اعتبارية لأكثر من850 مليون مسلم غير عربي، كلهم يَتُوقون إلى اكتساب اللغة العربية، فإن لم يتقنوها لأنها ليست لغتهم القومية، فإنهم في أضعف الإيمان يناصرونها، ويحتمون بأنموذجها.
2. العربية تميزت بحقيقة علمية قاطعة، وأَعلَق بمعطيات المعرفة اللسانية الحديثة، فلأول مرة في تاريخ البشرية – على ما نعلمه من التاريخ الموثوق به – يكتب للسان طبيعي أن يُعمَّر حوالي سبعة عشر قرنًا محتفظًا بمنظومته الصوتية والصرفية والنحوية، فيُطوِّعها جميعًا ليواكب التطور الحتمي في الدلالات، دون أن يتزعزع النظام الثلاثي من داخله.
3. أن اللسان العربي حامل تراث، وناقل معرفة، وشاهد حي على الجذور التي استلهم منها الغرب نهضته الحديثة في كل العلوم النظرية، والطبية، والفلسفية.
[1] التطور اللغوي بين القوانين الصوتية والقياس، مجلة المجمع بالقاهرة، (ج33 /109).
[2]بشر، كمال، اللغة العربية بين الوهم وسوء الفهم، ط. دار غريب، القاهرة: 1999م، (ص54).
[3] الضبيب، أحمد، اللغة العربية في عصر العولمة، ط1، مكتبة العبيكان، الرياض: 1422ه /2001م، (ص 15).
[4]حسين، محمد الخضر، القياس في اللغة العربية، (ص12)، ط2، دار الحداثة، القاهرة، 1983م.
[5]حسين، محمد الخضر، القياس في اللغة العربية، (ص302).
[6] (اللغة العربية والعولمة الثقافية)، مجلة التعليم، المعهد التربوي الوطني، بنواكشوط العدد (34) السنة 28/ 2003م (ص 121).
[7] المسدي، عبدالسلام، العولمة والعولمة المضادة (ص390).