ينتهي و يبدأ عام ويجد الفرد في بلادي نفسه مرة أخرى يفاوض نفس الأحلام ، يخجل بالطبع من تكرارها، ويخجل لأن العام دار دورته مرة أخرى دون أن يحقق بعضا مما يريد، ومع ذلك بالطبع يتشبث بالأمل و يستأنف حكم القدر على أمل رزق أكبر حتى و إن تأخر، نظرات الجيران والأصدقاء تحرجه؛ وانتظاراته الاجتماعية كثيرة و كثيرة، والزمن لا يرحم يمر بسرعة كبيرة، حتى يبرد الحماس و تفتر العزيمة و يأتي عام لا كالأعوام يبدأ فيه بتقبل الهزيمة، وبكل تعقل وشجاعة مع الذات يبدأ في نتف بعض أحلامه الطائشة، و يحاول جاهدا أن يقنع نفسه بأنها أحلام غير معقولة، بل غير مقبولة في بلد مثل بلدنا الحبيب، لكن الأخطر في الأمر كله هو أنه هنا إما أن يبدأ في التنازل عن أحلامه حلما حلما بكل قناعة اضطرارية مسلما بالقضاء والقدر،أو يبدأ في التنازل عن مبادئه مبدأ مبدأ ليراهن فقط في الأخير على تحقيق بعض الأحلام ولو على حساب مبادئه و مثله في الحياة.
يقول أحد أساتذتي إنك الآن أيها الشاب الطموح عنيد وحيوي، لكن تأكد ستأتي أعوام ستبدأ فيها خزينة مبادئك تقطر، ثم ستأتي أعوام ستبدأ فيها هذه الخزينة تسيل وتسيل إلى أن يثقلك أربعة أولاد وتصير حينها تبحث لهم ولنفسك عن قبر الحياة؛ و تراهن فقط على سلة الأمان والنجاة…، نعم أستاذي العزيز أشكرك على قراءة الفنجان هاته، و أشكرك لأنك لست من الصنف الذي يشجع طلابه على الأحلام الرحبة العريضة التي كثيرا ما صارت سببا في كثير من الآلام والآلام، وسببا أحيانا كثيرة في كآبة مستمرة للإنسان…
صحيح أنه بقدر ما ارتفعت بنا أحلامنا إلى سماء الأمل؛ بقدر ما نكون معرضين لسقوط حاد و مدو يكسر كل عظامنا و كل معنوياتنا حتى نندم على الوقت الذي فكرنا فيه في التحليق عاليا في سماء الأحلام، لكن هل معنى هذا الكلام أنه علينا أن نقمع في نفوسنا غريزة الأحلام ؟ كلا، إن الحلم حتى وهو بصورته الهلامية الخيالية يشكل ذلك الوقود المحرك للفرد في اتجاه الوصول إلى تحقيق الأهداف، فالإنسان من غير حلم لا يمكن أن يعرف حتى هدفه بدقة وبالأحرى أن يعرف كيف يحققه بالشكل الصحيح و المناسب ، ثم إن الحلم أيضا متعة نفسية تنعش حاضر الإنسان بالأمل؛فإن حقق الهدف تذوق جيدا حلاوة قطع مسافة التحدي و مصارعة الصعاب من أجل الوصول إليه، و إن لم يتحقق الهدف يكون على الأقل قد عاش بعضا من العمر في أجواء من الايجابية الحالمة التي تؤجل تدريجيا خيبته عاما بعام إلى أن يفتر حماسه و ينسى تفاصيل أحلامه ،و تأتي نتيجة الامتحان في الوقت المتأخر وهو مستعد لتقبلها مهما كانت، بل أنه قد يكون انسحب من مضمار السباق راكبا حلما آخر إلى وجهة تحد جديدة …
و الأسلم في الحلم عموما اعتداله وواقعيته، بل تفرعه وتعدده وعدم تركزه في هدف واحد،لأننا ببساطة لسنا في أوطان يمكن أن تتحقق فيها أحلامنا بسهولة ، فكم من طالب اختزل كل أحلامه في مهنة واحدة حتى إذا لم تسعفه الظروف في امتهانها ظل طوال حياته منكسرا محطم المعنويات؛ بل و مفتقدا لذة رغد العيش الذي قد يأتيه بواسطة مهنة أخرى . وهكذا يصير من المفروض خصوصا في بلداننا أن نعدد أحلامنا و أن نعلم أولادنا ذلك، حتى لا يضعونها في سلة واحدة يمكن أن تسقط يوما؛ فتسقط كل حياتهم في دوامة من اليأس و الإحباط ، ثم إنه من المفروض أيضا أن نتعلم كيف نفاوض أحلامنا المتعصبة ، و نجعل من الأحلام وسائل فقط تحتمل الإبدال لا غايات جامدة في حد ذاتها ، حيث أننا أحيانا نظل نفني وقتا طويلا من الزمن نلهث وراء حلم عقيم أو قليل الفائدة ، و لربما لو أننا أنفقنا كل ذلك الوقت و المجهود على حلم آخر لكانت الطريق إلى النجاح أقصر و لكان حظ الفرد منه أوفر و أكبر…
ثم أنه لا ينبغي أبدا أن نصير في الأخير من الصنف غير المستريح من الناس ، الغير المستفيد نفسيا من تحقيق أحلامه ، إذ بمجرد أن يحقق حلما حتى يرسم فورا هدفا آخر فهدفا أخر ، دون أن يخلق لنفسه فواصل من الحمد والراحة يتأمل فيها المنجز؛ و يفتح عيونه على النعم بشكل يؤمن شعوره بالنجاح ويجعله واعيا بتضاريس مسالكه ، حتى إذا ما ركب حلما آخر كان قد غنم نصيبه من اللذة في النجاح الأول و تزود به خبرة و طاقة نفسية لمواصلة المسير نحو مزيد ومزيد من النجاح …
الخلاصة إذن أن الأحلام لابد منها ، كما أنه لابد من القناعة لمعالجة الآثار الجانبية للأحلام ، ولكل بالطبع من هذين العنصرين وقته الطبيعي، فالأحلام لابد منها قبل و أثناء بذل المجهود، أما القناعة فوقتها حينما تظهر النتيجة ولا مجال يتبقى للفرد من أجل تدارك النتيجة ، حيث تصير حقا كنزا لا يترك مجال للأسى ، خصوصا لما يستحضر الإنسان أن هذه الحياة بحلوها و مرها و بنجاحها وإخفاقها كلها إلى زوال…